بورصة الانقسام الفلسطيني!
تامر المصري
منذ أن بدأت النكبة التاريخية لشعبنا العربي الفلسطيني، عام 1948، كانت فلسطين مهيأة لكل أنواع الاحتمالات، التي اعتادت أن تستوعب كل التباينات والمفارقات والخلافات، تحت عنوان واحد، يتفق فيه الجميع على فلسطين نفسها. ولعل المسيرة على طولها، منذ ما قبل الثورة، وحتى انطلاقتها، مرورا بمراحلها في الشتات، من منفى إلى منفى، وصولا إلى دخول رعيلها الوطن، على حصان طروادة، عام 1994، قد شهدت أكثر من عملية تقييم، اختلفت نصوصها ومخرجاتها، من مرحلة إلى مرحلة، ولكنها أجمعت على أن فلسطين لكل أبنائها، ولكل من خفق قلبه بحبها وبعدالة قضيتها، ممن تضامنوا معنا، بسيوفهم وأموالهم وألسنتهم، وما استقر في قلوبهم من إيمان.
إن فلسطين التي كانت دائما، أكبر من شهدائها وجرحاها وأسراها، بصفتها الإيجاز الرفيع للمعنى الإنساني السامي، لجدلية العشق الأزلي بين الإنسان وأرضه، التي تستحق التضحية، قد استطاعت أن تكون قضية العرب الأولى، وهاجس هواجس المسلمين، وقبلة كل دعاة العدالة والخير والمساواة، في جهات العالم الأربع.. فلا عجب إذن، إن وجدنا من يفتديها بصمت، أو من يتحدث عنها بألم، أو من يقصدها بروحه وقلبه، أو من يشير إليها معجبا، أو من يركب موجتها متاجرا، ففلسطين تعودت أن تقبل كل من جاءها صامتا أو مثرثرا!
لقد أثبتت فلسطين أنها معيار قياس المبادئ والالتزام، وأنها موضع الجدال الدائم، وأنها أساس كل اختلاف واتفاق، وأنها القضية التي يفتي فيها كل أنواع البشر؛ من العارفين والجاهلين، والمحبين والكارهين، وكذلك الصادقين والانتهازيين، وأيضا المُغرِرِين والمُغرَر بهم؛ وهكذا.
إنني إذ أعرف كما يعرف الكثير من أبناء الحركة الوطنية، أننا مرغوبون ومطلوبون على درب البطولة، أن نلتزم بأقصى حدود الفداء حتى نقضي شهداء، دون أدنى حق لنا في التفكير أو الاختيار، كي يبرز من خلفنا أناس يتلون علينا الصلوات، فيأخذون بناصية الجماهير في مهرجانات الخطابة، لتكون دماؤنا القناديل التي تضيء لهم الطريق إلى سلالم المنابر، وعتبات الفضائيات.. للأسف؛ صار الحال هكذا في هذه السنوات!
إننا نعرف أيضا، أن الكثير ومنذ المسيح عيسى ابن مريم، وهو أول لاجئ فلسطيني، قد كتبوا علينا، بما يشبه الرغبة الإلزامية التي لا تؤجل نفسها، أن نكون على حد الموت في المشهد الأخير، كي يعلقوا الصليب فيما بعد على صدورهم، إكراما وإجلالا لذاك المشهد وذاك الشهيد، وإلا سنكون غير آهلين بالتصديق وحمل الرسالة .. هذا ما حدث مع الشهيد ياسر عرفات حتى صدقوه.
نؤمن بكل شعوب الأرض التي آمنت بشعبنا وبعدالة قضيتنا، ونؤمن أكثر بأنفسنا وبساعتنا الفلسطينية التي نحدد عليها مواعيد أجندتنا، حسب توقيت القدس المحتلة، ونؤمن بما تخبئه لنا الأقدار، ونؤمن أيضا بالمصلحة الوطنية الفلسطينية وفق ما تقتضيه الظروف. كما أننا نؤمن بأن إيمان البعض بفلسطين، لم يتحقق إلا عندما آمنوا أن مصلحتهم تكمن في استمرار أوجاعنا، وأنهم لو كانوا ينتمون إلى أدنى مراتب القيم، لانتموا لفلسطين بكل أطيافها وسمعوا منها وعنها من كل أبنائها، ولكنهم آثروا بيع المواقف في زمن يسهل فيه البيع والشراء.
لقد آن الأوان لكل من اختصر فلسطين وأوجاعها في غزة، أن يستفيق من لوثة جنونه المؤذي، ليدرك أن معركة فلسطين، بوابتها القدس، وكل المدن فيها نوافذ سواء، وأن التجارة والاستثمار في بورصة الانقسام الفلسطيني، لن تدوم ولن تدر عليهم إلا العار وسوء المنقلب، عاجلا أو آجلا، لأن الانقسام زائل لا محالة، وبإرادة فلسطينية خالصة، شاء المعطلون للمصالحة أم أبوا. وإن كان من نصيحة نسديها، فإنها لأولئك الذين اختبئوا تحت مسميات تتمسح بفلسطين، ليسوقوا أنفسهم، بأن لا يتعودوا على الاسترزاق من طرق أبواب بعض السفارات التي تتقصد كينونتنا السياسية خلف ستارهم، لأنهم في نظرها ليسوا أكثر من أدوات، ستنتهي فاعليتها حال انتهاء مرحلة الانقسام، وانفضاح أمر كل أنواع السماسرة.