العين .. الثالثة
رفع الدعم عن الوقود .. مساس باستقرارنا الاجتماعي
هل ستتخلى الحكومة عن أهم واجباتها تجاه المجتمع، وهو المحافظة على استقراره، والعمل دوما على ما من شأنه تعزيز هذا الاستقرار؟ نرى من الأهمية الوطنية العاجلة طرح هذا التساؤل من حيث "المبدأ" حتى يظل (أي المبدأ) حاكما لأي اختلاف أو خلاف مع الحكومة بشأن أي سياسة مالية أو اقتصادية تمس نتائجها مباشرة أو غير مباشرة منطقتنا الاجتماعية، فمنذ أحداث عام 2011، أصبح نجاح الحكومة محكوما بالمحافظة وتعزيز ديمومة استقرار المجتمع، فهذا هو الهدف النهائي من وراء أي جهد تنموي أو اقتصادي أو مالي، وهذا هو غاية غاياتنا الوطنية، التي بها يستديم الأمن والاستقرار، وما عداها لا يمكننا الحديث عن أية نجاحات حتى لو كانت موازنتنا خالية من أية عجوزات أو مهما كانت نسبة نمونا السنوي المئوية، الأهم الانعكاسات الاجتماعية لكل التطورات الاقتصادية، وعلى فريقنا الاقتصادي أن يدرك هذه الحقيقة الآن، وإلا، فإنه سيكون مثل الفريق الاقتصادي السابق الذي في عهده تفجرت أحداث 2011.
وقد أثبت لنا الاقتصاديون والماليون الجدد "وتوجه رفع الدعم عن الوقود نموذجا" أنهم لا يعون الأبعاد الاجتماعية لبلادنا، أو أنهم يدركونها، لكنهم لا يعتدون بها الاعتداد الوطني الخالص والمخلص في جل سياساتهم المالية والاقتصادية، وإنما جل همهم إيجاد التوازنات الرقمية حتى لو كانت مفروغة المحتوى الاجتماعي، أو أنهم لم يقرأوا التاريخ العماني حتى يدركوا ثقل الحمولة الاجتماعية في تركيبة الدولة العمانية "قديما وحديثا" ولو فتحوا نافذة على هذا التاريخ، فسوف يعلمون حجم تأثير هذه الحمولة في أحداث كبرى ماضية، ولقاسوا عليها مستقبلا، غير أن هاجسهم الدائم يظل خلق التوازنات في ظل تفاعل اقتصادنا مع الاقتصاد العالمي دون ربط كل ذلك بالحمولة الاجتماعية الثقيلة لدولتنا الحديثة، ويبدو أننا نشهد الآن جنوحا تاريخيا ثانيا للتحرر من تلك الحمولة الاجتماعية، وإذا ما جانب استشرافنا الصواب، فإن ذلك يعني لنا عدة مؤشرات خطيرة، أبرزها، أننا لم نستفد من تجاربنا الحديثة حتى الآن، وأن الفريق الاقتصادي في الحكومة لم يخرج عن ثقافة وربما عن عباءة الفريق الاقتصادي السابق الذي ذهب ضحية أحداث عام 2011، وفي عهده أي الفريق السابق، كان الجنوح الأول عام 1996م عندما نقل دور الدولة من الدور المتدخلي إلى الدور الليبرالي فجأة في وقت لم نهيئ المجتمع لتحديات الليبرالية، فتم صياغة رؤية استراتيجية طويلة الأجل "2020م" برؤى وأبعاد اقتصادية خالصة لخدمة الاقتصاد العالمي من منظور مصالح فئوية، والكل شاهد عيان على تداعياتها، وكل ما تقوم به الحكومة منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وهو سد الثقوب الكبرى التي أحدثتها تلك الرؤية في الجسم الاجتماعي، والثاني، هو توجه الحكومة نحو رفع الدعم عن أسعار الوقود الذي يروج له حاليا الفريق الاقتصادي والمالي الذي جاء من رحم التفاعلات الاجتماعية، وهو نجده يغرق نفسه في نفس المستنقع، وذلك عندما يفكر في رفع الدعم في ظرفية سياسية واجتماعية، لن تسمح بسحب حقوق من المجتمع، وإنما إضافة حقوق جديدة فوق الحقوق القديمة، فسحب الحقوق خط أحمر تحتمها كل قراءة موضوعية للظرفية الراهنة، فكيف يتم التفكير لو مجرد التفكير في سحب الحقوق؟ بل إننا نرى التلويح بعملية السحب مهما كانت المبررات الاقتصادية، خطوة غير ذكية في مرحلة يحتم فيها تغليب الوعي الرفيع بكل ما من شأنه قد يثير المجتمع، فكيف لو كانت تلك خطوة يراد لها التطبيق؟ الأمران محتملان، وكلاهما لا يقرأ طبيعة المرحلة الراهنة التي تمر بها بلادنا في سياقها العربي والكوني، كما لا يضع الحمولة الاجتماعية الثقيلة في سياقاتها التاريخية "قديما وحديثا"، وهناك اعتقاد اجتماعي واسع النطاق لا يذهب إلى حد التصديق بالتطبيق، ويعتبر الإعلان برفع الدعم، محاولة لكبح الجماح الاجتماعي المطالب بقوة منذ ثلاث سنوات بتحسين مستوى معيشة المواطنين من خلال رفع المرتبات وتوحيد صناديق التقاعد، وهذا النوع من الحسابات السياسية محتملة، ولن ننكرها، لكننا نستغرب من التفكير فيها الآن، بعد ما مرت بلادنا بأحداث تعطينا الكثير من الدروس والعبر، ويمكن أن ترشد سياستنا وتضبط بوصلتها، لن ننكرها، ورغم ذلك تحتمل النكران، ففي التلويح بالرفع رسالة اجتماعية ناقصة المفهوم والمعنى، وقد وصلت مبتورة وغير كاملة، وتركت المجتمع للغط والجدال، لكن، ماذا بعد رفع الدعم؟ لم يتحدث الفريق الاقتصادي عن البدائل، كما لم يقدم لنا رؤيته الإستراتيجية التي سيكون من شأنها الحفاظ على استقرارنا الاجتماعي، وإنما اكتفى التلويح بالرفع، رغم ما يشاع على نطاق واسع عن أن البديل المقابل سيكون رفع المرتبات، وإذا سلمنا جدلا بالمتقابلين، هناك تساؤل مهم وكبير يجب أن يطرح وبصوت مرتفع وهو: هل ستضمن الحكومة استقرار مجتمعنا بعد رفع الدعم حتى في حالة إقدامها على رفع المرتبات؟ فالوقود مرتبط بكل مناحي حياتنا، بما فيها المأكل والمشرب والدواء والبناء .. إلخ، فهل سيكون لديها الضمانات المؤكدة على أن رفع المرتبات بعد رفع الدعم عن الوقود سوف تغطي (أي المرتبات) مجموع الزيادات الجديدة التي ستطول كل مناحي حياتنا؟ لا مجال للاجتهادات داخل منطقتنا الاجتماعية، فأي هزة جديدة ستدفع بلادنا ثمنها كبيرا، لأن منطقتنا الاجتماعية ذات حساسية مفرطة جدا، كما لا يجب أن نعطي للمتربصين بنا من الداخل والخارج المنافذ الممكنة وعلى أطباق من ذهب للتوغل في شأننا الداخلي، هذه القضية من هذا المنظور الوطني الاجتماعي، هي التي تشكل شغلنا الشاغل، وبسببها نقف متحفظين على سياسة رفع الدعم، ومعارضين تماما لربط رفع المرتبات برفع الدفع الدعم عن أسعار الوقود للاستفادة من المليار، وهذا التفكير يرجعنا لنفس تفكير الفريق الاقتصادي السابق، عندما كان يبحث عن الحل من خلال منهج الدراسة الاكتوارية، والآن يفكرون بسحب حقوق قديمة مقابل إعطاء حقوق جديدة، وواقع الحال يقول: إنها نفس العقلية التي ابتدعت لنا الدراسة الاكتوارية، وعامل المشترك بينها، يكمن في البحث عن الحل من داخل المنظومة المالية، وليس عبر وسيلة تعزيزها ماليا من خزينة الدولة، ولا نعتقد أن خزينة الدولة تعاني من نقص مالي، أو مواردها غير كافية، بشهادة الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، كما ليس عندنا مشاكل اقتصادية كبيرة تضطرنا إلى رفع الدعم، مثل التضخم، والمحافظة على استقرار الريال، أو احتياطنا من العملات الأجنبية. إذن، لماذا نريد رفع الدعم الآن؟ إذا كان بغية وقف التهريب؟ فهذه مشكلة الجهات المختصة، ولا ينبغي أن نحملها المجتمع، وإذا كان من أجل ضمانة أن يصل الدعم إلى مستحقيه، نحن مع هذا التوجه، أي مع الهدف، لكننا لسنا مع الوسيلة، ولا الكيفية التي يسوق بها عملية الرفع، فكيف إذن نحقق الهدف بالوسائل التي تضمن استقرارنا الاجتماعي وليس المساس به، فهل رفع الدعم بصورة مجردة سيحقق لنا ذلك؟ وهل لو تم توظيف مبالغه لرفع المرتبات سوف تحقق لنا نفس الهدف؟ لا بد أن يكون للحكومة إجابة قاطعة وليست اجتهادية، لأنها تلعب في منطقة مفرطة الحساسية، وبالغة التعقيد، وسياستنا فيها تكون دائما متحفظة وحذرة جدا، فهل تخلينا عنها؟ إذا تخلينا عنها، فإن هذا يعني لنا كذلك، أن هناك من يعمل على إثارة الاستياء والإحباط ـ بوعي وبلا وعي ـ ليس مهما، لأن المرحلة الراهنة يتطلب العمل الواعي والفعل الذي يعطي حقوقا وليس يسحب حقوقا مقابل إعطاء حقوق، عموما، الإجابة مع التطورات المقبلة.
د.عبدالله عبدالرزاق باحجاج