لا زلت أتذكر من ذكريات سجن الحوض الجاف أخوة أعزاء وأصدقاء لا يمكن نسيانهم. تركوا في النفس أجمل الذكريات. جمعنا الألم في مكان واحد وتشاركنا الأكل والأحلام والغضب ضد نظام حاكم لا يرحم صغيراً أو كبيراً. ساقنا ظلمه لسجنه وعرضنا لصنوف التعذيب والإهانة في وطن تضيع فيه الحقوق وتُهان حقوقهم وكرامتهم الإنسانية بعيداً عن أعين الناس وصوت الإعلام. داخل سجن الحوض الجاف (عنبر 3) رأيت شباباً من مختلف القرى والمدن ناقمين على النظام بغضب ليس له نهاية بسبب تعسفه في تعذيبهم وإهانتهم. منهم أطفال وطلبة وشباب جامعيون وحتى كبار السن لم يسلموا من الاعتقال.. ساقتهم السياسة الأمنية للنظام الحاكم إلى مكان واحد معزول عن العالم ومحاط بحراسة شديدة، وكانت ثورة 14 فبراير هي الشرارة التي أطلقت غضب الشباب بعد سنوات الظلم والوعود الكاذبة في ظل غياب القانون العادل. وفي إحدى الغرف الضيقة جمعني القدر مع معتقل شاب جميل ومهذب ذي ابتسامة. يجذبك بحسن خلقه ودماثة طباعه الهادئة، وهو علي منصور المعلم ذو العشرين عاماً، وينتمي لقرية سترة الأبية التي قدمت قرابين فداء لثورة البحرين، كان مثل بقية الشباب الحالم بمستقبل واعد في وطن يحترم حقوق الإنسان. امتاز المعلم لمن يعرفه بنشاطه الفني في مجال (المونتاج، التصوير والإخراج) وخصوصاً في شهر محرم الحرام الذي يبدع فيها إعلامياً مع القنوات الإسلامية عبر تصميم وتنفيذ الكليبات الفنية والمونتاجات الإعلامية، كما عُرف عنه نشاطه في الساحة الفنية مع المنتجين والفنانين الملتزمين بفن الكلمة والصوت والصورة. أخبرني صديقي ذات مرة بأنه منذ صغره كان يحب اللعب بالكاميرا الصغيرة، واحترف بعدها التصوير وأبدع في برامج الفيديو والمونتاج، وتعامل مع كبار المخرجين وأصدر أعماله الفنية (أناشيد وقصائد، لطميات وكليبات، فواصل إعلانية) للعديد من القنوات، وكان له تعاون خاص مع منشدين كبار كالشيخ حسين الأكرف وباسم الكربلائي وغيرهما. كنت أسير معه كل يوم تقريباً في العنبر ذهاباً وإياباً، ونتحدث بروح أخوية في شتى القضايا الهامة والمواضيع الاجتماعية، ونحلم معاً بتأسيس شركة فنية وإعلامية، ونضع أحلامنا موضع نقاش، ونرسم أفكارنا على الورق لعلها ترى النور يوماً ما.. وكنا أغلب الوقت نجلس معاً ونأكل في صحن واحد ونلعب ألعابا خفيفة ونشارك معاً بمسابقات ظريفة.. ننام في نفس الزنزانة وحتى سريره كان بمثابة مقهى للسهر والدردشة الليلية، فلم يكن السجن يقيد أحلامنا أو يكسر إرادتنا، رغم حالات الغضب والانفعال النفسي وتقلب المزاج التي يمر بها المعتقل السياسي. حدثني صديقي المعلم أنه تم اعتقاله في (30 أبريل 2012) عبر جسر الملك فهد وتوقيفه وتحويله للتحقيقات بتهمة التجمهر وأعمال شغب بقرية سترة، وظل في التحقيقات يعاني سوء المعاملة طوال ثلاثة أيام، وتم اجباره على توقيع اعترافات بدون أدلة أو إثبات!! وحتى لحظة فراقي اياه منذ تعرفي اليه منذ عام مضى، لم أنس صديقي الذي غاب.. لا زال موقوفاً منذ عامين تقريبا في سجن الحوض الجاف وينتظر حكم العدالة والإفراج عنه لقناعته بالبراءة ومن ثم إكمال مشواره الفني والإعلامي. وفي ذكرى محرم الحرام لهذا العام، افتقدت صديقي المعلم أكثر من أي وقت مضى، فموسم عاشوراء يثير في النفس شجون كربلاء واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو مناسبة لإطلاق مواهب الشباب وإبداعاتهم الفنية.. تذكرت صديقي الغائب وتحسرت بألم على فراقه.. خرجت من المعتقل ولا زال هو فيه منذ عامين تقريبا.. خرجت بذكريات جميلة ومؤلمة بنفس الوقت، ولكن أخواني الشباب لا زالوا هناك خلف القضبان ينتظرون لحظة الخلاص، وواجبنا الإنساني والحقوقي يتطلب نصرتهم والوقوف مع عوائلهم الكريمة، ونشر قضيتهم إعلامياً، وتحريك الرأي العام لحلحة ملف المعتقلين المنسيين في السجون الرهيبة في البحرين. صديقي المعلم بمواهبه الفنية المتعددة في المونتير والإخراج والتصوير.. نموذج لهؤلاء الشباب الحالمين بوطن يحكمه العدل والقانون، الذين يفترض بالحكم الرشيد أن يرعى أمثالهم وينمي طاقاتهم ومواهبهم انطلاقا من مسؤوليته عن رعاية الشباب وصون حقوقهم وكرامتهم الإنسانية.. ولكن هيهات. كنت أتساءل ماذا أستطيع أن أفعل من أجل أخواني المعتقلين ظلماً والمقهورين بسبب اعتقالهم التعسفي وتعذيبهم بشكل وحشي، استمعت لشهادات أغلبهم بدءاً من لحظة الاعتقال التعسفي بشكل غير قانوني، وجرجرتهم لمبنى التحقيقات الجنائية والتحقيق معهم وتعذيبهم بدنياً ونفسياً وتلفيق التهم الباطلة ضدهم واجبارهم على توقيع اعترافات مع وجبات الضرب والإهانة ووصولاً لمبنى النيابة العامة حيث وسائل الإرهاب والإكراه ومن ثم ايداعهم بسجن الحوض الجاف.. لحظات مؤلمة شكلت انعطافة كبيرة في حياة هؤلاء الشباب، وبعضهم لا زال يشكو الأمراض ولا ينام ألا ساعات قليلة.. وبعضهم يئن من الألم بسبب جروحه وعلله.. وبعضهم خسر دراسته أو عمله أو حياته الاجتماعية. الشباب ملوا وعود الساسة، منطقهم صواب وأفكارهم قابلة للنقاش، عالمهم الحب والعشق والجنون، دموعهم تسطر حبهم لآل البيت الأطهار، ودعاؤهم يوم الجمعة يغسل ذنوبهم ... النفس تشتاق للقائهم خارج السجن.. آمنت بقضيتهم العادلة وبالوطن الذي يحكمه الأحرار وليس العبيد.. ولذلك سأحمل قلمي سلاحاً للدفاع عنهم من أجل وطن العدل والحرية والسلام. |