أشلاء ناعمة مستخرجة من تحت الركام، وأجساد صغيرة ملفوفة بالأكفان وأرقام متصاعدة لإعداد الشهداء، ثم بكاء وعويل الأمهات الثكلى، وربما هدوء وتجلّد على المصاب، وغيرها من المشاهد الشجيّة من مدينة غزة المنكوبة والمستهدفة دون هوادة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، فماذا تعني هذه المشاهد؟.
الأطفال، كما النساء في المعارك والحروب، هم الحلقة الأضعف والهدف السهل، ففي الوقت الذي يستقبلون الحمم من الطائرات والمدافع، يعجزون عن الردّ لقرص يدهم عن ذلك، وربما تكون المواقع العسكرية او المخابراتية محمية او مموهة بشكل او بآخر وبعيدة عن الاستهداف، بينما بيوت الآمنين مكشوفة للنيران والحمم.
وبينما نسطر هذه الكلمات، بلغ عدد الشهداء الاطفال الغزاويين (296) شهيداً، وقد أصدرت منظمة "يونيسيف" تقريراً أمس عن هؤلاء الضحايا، وقالت أنهم يشكلون (30) بالمئة من شهداء المدينة خلال الفترة الماضية، وحسب التقرير فان عدد الفتيان الشهداء (187)، أما الفتيات فقد بلغن (109) شهيدة.
وفي آخر حلقة من مسلسل الإجرام الإسرائيلي، فقد استهدفت الطائرات مؤخراً مدرسة للبنات تابعة لمنظمة الانروا التابعة للأمم المتحدة (منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين). هنا نلاحظ أول رد فعل إزاء إزهاق ارواح الاطفال الفلسطينيين، وجاء من الامين العام للأمم المتحدة، بان كي مون.. وكان واضحاً التنديد بالغارة لانها استهدفت مبنى تابعاً للمنظمة الدولية، وربما يكون المسؤول الأممي مدفوعاً بالإحراج الدولي، كونه الرجل الاول في المنظمة الدولية. وهو ما يتفهمه القادة العسكريون الإسرائيليون!. وإلا أين صوت المنظمات الدولية المعنية بالجانب الإنساني، في مقدمتها منظمة الطفولة نفسها (يونيسيف) والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، للضغط على الكيان الصهيوني وإظهاره كياناً همجياً وبربرياً وإماطة اللثام عن الوجه الذي يسوقه للعالم بأنه نموذج النظام الديمقراطي في الشرق الاوسط؟
أما عن بلادنا الإسلامية، فهي لن تتمكن من صد القنابل والقذائف عن الوصول الى غرف نوم الأطفال الغزاويين او حتى ملاجئهم، إنما بإمكانهم قطعاً مسح الدموع عن وجناتهم والغبار عن وجوههم او انقاذ المصابين منهم. وهذا بحاجة الى موقف موحد لتعبئة شاملة من الجميع بمختلف اختصاصاتهم وقدراتهم وإمكانياتهم.
ربما تكون المساعدات الانسانية في مقدمة المطالب العاجلة حالياً، ومنها الدواء والعلاج والعقاقير الطبية اللازمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا ما تقوم به بعض الدول حالياً، كما يحتاج الامر الى حملة اعلامية وسياسية من شأنها ممارسة الضغط لتسهيل وصول هذه المساعدات الى اصحابها في وقت يقع هؤلاء الأطفال ضحية مزايدات وتجاذبات سياسية بين محاور إقليمية في المنطقة، كما أفرزت الأحداث ذلك، فدولة مصر التي حرصت دائماً ان يُقرن اسمها بـ "العربية"، تغلق حدودها بوجه هذه المساعدات لأنها في المحور السعودي الذي يواجه المحور الايراني في المنطقة.
وبما أن لغة الإعلام والأدب والفن، مفهومة وسريعة الوصول الى المتلقي، فان المسؤولية تكون واضحة المعالم في نقل الوقائع والحقائق والمشاهد المأساوية الى العالم بأسره، والتنبيه الى أن هنالك اطفال صغار يقتلون دفناً تحت الأنقاض او برصاص الاحتلال الإسرائيلي، لا ذنب اقترفوه سوى أنهم فلسطينيون يريدون العيش بأمان على أرض الآباء والأجداد.
وربما من أشد الاعمال التضامنية تأثيراً ما يصدر من أطفال صغار، من خلال رسوماتهم او رسائلهم او مواقف معينة تنمّ عن المواساة والتضامن مع اقرأنهم في فلسطين، ففي ايام عيد الفطر السعيد، كان معظم الأطفال المسلمين سعداء بملابسهم الجديدة وألعابهم، وهم بين عوائلهم وأجوائهم الدافئة والآمنة، تتوفر لديهم معظم الإمكانات الترفيهية والعيش الكريم، وهو بالضبط ما افتقده تماماً اطفال غزة.
لأعود الى الذاكرة، في حادثة قصف مدينة حلبجة الكردية بالقنابل الكيماوية من قبل نظام صدام، وصل عدد من الاطفال الكُرد الى طهران لتلقي العلاج من الاصابات الكيماوية، وصادف تلك الايام أعياد "النوروز" التي يحتفل بها الايرانيون، والاطفال ايضاً، ومن جملة مراسيم الاحتفال، تلوين البيض لتكون باشكال زاهية وتوضع في سلة وسط المائدة، فبادر أحد الاطفال الايرانيين الى إهداء إحدى البيضات الملونة الى طفل كردي راقد في المستشفي ليكون مشاركاً في احتفالات العيد.
و حتى لا نجانب الحقيقة والواقع، فان البعض يرى في الحديث عن التضامن مع الشعوب المنكوبة في معارك وحروب، نوعاً من اطلاق الشعارات او مجرد إثارة العواطف، والسبب في كثرة المآسي في بلادنا، ففي الوقت الذي يقتل الاطفال الغزاويون دفناً تحت الانقاض، هنالك اطفال يذبحون في العراق، مع فارق الاسباب والدوافع والظروف. لكن اذا سلمنا بهذا الاعتقاد وجعلنا منها فجوة للهروب من المسؤولية، فالنتيجة ستكون غير مرضية لنا عندما نستسهل القتل والابادة والجرائم ضد الانسانية والطفولة.
نحن بحاجة الى الكثير الكثير من شحنات الثقة بالنفس والأمل بالمستقبل وبالتغيير. وهذا بحد ذاته ينعكس على الاطفال وعموم ابناء غزة والاراضي المحتلة الذين يعيشون بلا كهرباء في هذا الصيف القائض وفي ظل حصار ظالم منذ فترة طويلة.