رحلة أسرة ابن خلدون من الأندلس إلى المغرب (5)
دخول السجن... وتهمة التآمر على السلطان
ماذا يقول ابن خلدون عن علوم أستاذه في مقدمته؟ يؤرخ ابن خلدون كعادته لتطور كل مسألة عقلية كانت أم عمرانية، ويضع «علم المنطق» في فصل مستقل يبدأ بتعريفه وتطوره وكيف تكلم به المتقدمون إلى أن وصل إلى أرسطو «فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله، وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها» ويأتي على ذكر كتبه وهي ثمانية: أربعة منها في صورة القياس، وأربعة في مادته (المقدمة، ص543). ثم قام حكماء اليونان بتطوير صناعة أرسطو وأضافوا عليها «الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج...» فصارت مقالاته تسعاً و»ترجمت كلها في الملة الإسلامية. وكتبها وتناولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص كما فعله الفارابي وابن سينا، ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس» (المقدمة ص544).
ثم أشار إلى نقد الفلاسفة المسلمين لمنطق أرسطو مثل الإمام فخرالدين بن الخطيب وأفضل الدين الخونجي والإمام أبوحامد الغزالي ونظروا فيه «أنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم، فطال الكلام واتسع». ويأتي على ذكر الغزالي والمتأخرين بعده كيف أنكروا انعكاس الأدلة و»لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله» (المقدمة ص546). ثم يسخر من الفلاسفة في فصله عن الطبيعيات حين يقول إن أرسطو أيضاً ألّف في الموضوع وتُرجم ما تُرجم من علوم الفلسفة أيام المأمون و»ألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح» (المقدمة، ص546). ويذكر كيف أن ابن سينا حاول «مخالفة أرسطو في الكثير من مسائلها ويقول برأيه فيها» في كتابه «الإشارات» بينما لخص ابن رشد كتب أرسطو «وشرحها متبعاً له غير مخالف». ويرى أن أهل المشرق أميل إلى إشارات ابن سينا منهم إلى ملخصات ابن رشد ويذكر شروحاً للإمام ابن الخطيب والآمدي ونصيرالدين الطوسي. (المقدمة، ص547). وبعد أن يتحدث عن الطب والفلاحة (الزراعة) يأتي إلى علم الإلهيات وما ذكره العلماء والفقهاء والحكماء وينحاز إلى العقيدة وذلك «أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية، فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية، فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها» (المقدمة، ص550). ويشرح علوم السحر والطلسمات وعلم أسرار الحروف وعلم الكيمياء إلى أن يصل إلى فصل خاص «في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها» فيتحدث عن ضررها الكثير في الدين «فوجب أن يُصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها» ويرى أن «إمام هذا المذهب» هو أرسطو أيضاً تلميذ أفلاطون وأستاذ الاسكندر المقدوني لأنه «أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها» (المقدمة، ص595-596).
ثم كان بعده في الإسلام «من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل». وكان من أشهرهم «أبوالنصر الفارابي في المئة الرابعة لعهد سيف الدولة، وأبوعلي بن سينا في المئة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما». ويحذر قائلاً: «وأعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه» (المقدمة، ص597). ويرى أن الموجودات التي وراء الحس «فإن ذواتها مجهولة رأساً، ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا» (المقدمة، ص598).
يناقش ابن خلدون بعض مقولات الفلسفة وأدلتها على الموجودات والروحانيات وينتهي إلى القول إن هذا العلم «كما رأيته غير وافٍ بمقاصدهم التي حوّموا عليها، مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها». وبعد أن يبطل الفلسفة وفساد منتحلها يقول إنه لا رجاء منها سوى «ثمرة واحدة» وهي «شحذ الذهن في ترتيب الأدلة، والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين» (المقدمة، ص600). لذلك يحذر الناظر فيها ويفضل أن يتم الاطلاع عليها «بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه» (المقدمة، ص601).
لم يكن القصد من التطويل شرح وجهة نظر ابن خلدون في الفلسفة والمنطق والطبيعيات وغيرها كما وردت في نصوصها في الباب السادس من المقدمة. القصد كان شرح وجهة نظر ابن خلدون بأستاذه الابلي فهو استفاد منه في تعلم شحذ الذهن والجدال والبرهنة لكنه لا يرى في أستاذه وتلاميذه وأيضاً في أساتذة أستاذه من الفارابي وابن سينا وابن رشد سوى مقلدين ومترجمين للفكر اليوناني حين أخذوا بتلك المذاهب «وحذوا النعل بالنعل» وترددوا في قول قولهم على عكس ما قام به الإمام الغزالي وغيره.
على هذا يمكن فهم ترداد ابن خلدون وتكراره للقب «شيخ العلوم العقلية» و»شيخ المعقولات والمنقولات» الذي ورد مراراً في كتاب (التعريف) عند ذكر اسم أستاذه الابلي ما هو إلا سخرية مبطنة من أستاذه. فالعجوز المجرّب ابن خلدون هو غير ذاك الطفل الذي دهش عند سماعه هذا الكلام للمرة الأولى في تونس وهو اختلف عن ذلك الشاب الطامح الذي غادر بلده للالتحاق بأستاذه. فالدهشة زالت وانتقل الإعجاب إلى كتابات الإمام الغزالي التي ساهمت في توضيح نقاط الضعف في الأدلة المنطقية والفلسفية، وهي التي استخدمها في لحظة تفكيره وتدوينه لـ «المقدمة» في الفترة الانتقالية من مرحلة الشباب إلى مرحلة الشيخوخة.
--------------------------------------------------------------------------------
مشاكل السلطة
صحيح أن ابن خلدون يبدي ارتياحه للفضاء العلمي والثقافي في مجلس السلطان أبوعنان إلا أنه استمر يشتكي من وظيفته التي كانت تكدر عيشه. واستمر الحال إلى أن حصلت بينه وبين أحد أمراء صاحب بجاية من الموحدين اتصالات ومحادثات يسميها ابن خلدون «مداخلة» في فترة كانت اعتلت فيها صحة السلطان في سنة 757 هجرية (1356م) وهي السنة التي توفي فيها «شيخ العلوم العقلية». قيل للسلطان المريض إن ابن خلدون يحيك مؤامرة مع أحد أمراء بجاية «فانبعث السلطان لذلك» وبادر بالقبض عليهما وحبسهما سنة 758 هجرية (1357م). ثم أطلق سراح الأمير وبقي ابن خلدون في السجن فأرسل له قصيدة «فكان لها منه موقع وهَشَّ لها» (التعريف، ص482). ووعد السلطان بالإفراج عنه عندما يعود من تلمسان إلى فاس. إلا أنه أصيب بوعكة صحية وتوفي في نهاية سنة 759 هجرية (1358م) فبادر «القائم بالدولة الوزير الحسن بن عمر إلى إطلاق جماعة من المعتقلين كنت فيهم (...) وأعادني إلى ما كنت عليه».
كان ابن خلدون يكره وظيفته وطلب من الوزير الجديد إعادته إلى بلده «فأبى عليَّ وعاملني بوجوه كرامته (...) إلى أن اضطرب أمره، وانتفض عليه بنومرين». ويروي خبر الاضطراب ودوره فيه فيذكر أن السلطان أبوسالم (شقيق أبوعنان) طالب من الأندلس بملكه ونزل «جيل الصفيحة من بلاد غمارة» (التعريف، ص482). واستخدم ابن مرزوق في فاس لبث دعوته واتصل ابن مرزوق بابن خلدون وطلب منه السعي بين شيوخ بنومرين وإقناعهم بتأييد السلطان أبوسالم فوافق وأقنع الكثير منهم على ذلك وبعث «ابن مرزوق إلى الحسن بن عمر، يدعو إلى طاعة السلطان أبي سالم». وجهز السلطان عساكره وصعد إلى فاس فاضطر الحسن بن عمر إلى طاعته و»دخل إلى دار ملكه وأنا في ركابه» (التعريف، ص483). كان ذلك في العام 760 هجرية (1359م) وابن خلدون في الـ 28 من عمره. وأعجب السلطان أبوسالم بدور ابن خلدون في تأليف شيوخ بنومرين ودفعهم إلى تأييده فاستعمله في «كتابة سره، والترسيل عنه، والإنشاء لمخاطباته» بسبب تميز أسلوبه وبلاغته في كلام المرسل.
لا يعتبر ابن خلدون أنه تآمر على صاحب فاس فهو يروي تتابع الحوادث ودوره فيها من دون اكتراث للوازع الخلقي أو السياسي فهو شاب طموح وصاحب فاس الحسن بن عمر منعه من العودة إلى بلاده كذلك أعاده إلى الوظيفة التي يكرهها ولم يرفع من قدره كما فعل السلطان أبوسالم الذي استمر في خدمته يدرس ويقرأ ويكتب الشعر منها قصيدة طويلة أنشدها في العام 762هـ (1361م) ليلة المولد النبوي أطنب فيها الرسول (ص) وعدّد معجزاته.
دخل ابن خلدون في منافسة مع ابن مرزوق لكسب ود السلطان ونجح الأخير في التقرب ومخالطته وبقي هو على ما كان عليه من «كتابة سره» إلى أن ولاه «خطة المظالم» وقام بها خير قيام إلى أن دبّ الخلاف داخل القصر بين السلطان أبوسالم والوزير عمر بن عبدالله بتحريض من ابن مرزوق «فصار الناس إليه ونبذوا السلطان وبيعته، وكان في ذلك هلاكه». ونجح ابن خلدون في ترتيب علاقة مع الوزير الحاكم الجديد فأقره على ما كان عليه وزاد إقطاعه ومعاشه. ويعترف ابن خلدون بطمعه إذ «كنت أسمو، بطغيان الشباب، إلى أرفع مما كنت فيه» (التعريف، ص487) فأخذ يتقرب منه مستغلاً صداقة قديمة كانت تجمعه به إلى جانب صاحب بجاية الأمير أبوعبدالله في أيام السلطان أبوعنان. ويبدو أن تذكير ابن خلدون الأمير عمر بصداقتهما القديمة أزعجته وتنكر له، الأمر الذي دفعه إلى طلب مغادرة فاس والعودة إلى بلده تونس (التعريف، ص488).
رفض صاحب فاس الأمير عمر بن عبدالله طلبه وأصرّ على وجوده خوفاً من انقلاب ابن خلدون عليه وتأليف القبائل ضده.
آنذاك كان بنوعبد الواد قد استردوا ملكهم في تلمسان والمغرب الأوسط وخاف صاحب فاس أن يذهب ابن خلدون ويقيم عند صاحب تلمسان أبو حمو فمنعه من السفر. واستجار بالوزير مسعود وأنشده قصيدة سنة 763 هجرية (1362م) في مناسبة عيد الفطر فأعانه الوزير وأذن له صاحب فاس بالسفر على شرط أن لا يذهب إلى تلمسان. ووافق ابن خلدون وطلب الذهاب إلى الأندلس وأرسل أسرته إلى أخوالهم في قسنطينة سنة 764 هجرية (1363م). وبمغادرته بلاط صاحب فاس انطلق إلى الأندلس مزوداً بالتجربة والعلوم والكثير من الأحلام والطموح.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2968 - الجمعة 22 أكتوبر 2010م الموافق 14 ذي القعدة 1431هـ