الشك المشروع
في حلقة «حوار العرب» التي بثتها قناة «العربية» مساء أمس الأول تركز الحوار حول الإسلام والدولة الحديثة، وما إذا كان التفكير الديني السائد يمثل عائقاً أمام إقامة الدولة بمفهومها العصري المتمثل في أن السيادة للشعب، مع ضرورة الفصل بين السلطات، على أن يكون كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية منتخبتين من الشعب، وأنه يمكن تداول السلطة بصورة سلمية ودورية.
الحوار «جديد - قديم»، ولعل الجديد فيه أنه يبث على قناة مملوكة خليجيّاً، والبث يفسح المجال لكل من يشاهد القناة في أي مكان كان أن يستمع ويشاهد تفاصيل النقاشات، سواء اتفق أو اختلف معها.
وفي حلقة نقاشية حول الموضوع ذاته ساهمتُ في تنظيمها قبل أكثر من عشر سنوات في لندن، تطرق عدد من المشاركين آنذاك إلى قضايا مماثلة، ولكن ما بقي في ذهني كان مداخلة تحدثت عن مفهوم «الشك» أو «الظن»، وكيف تتعامل ثقافتنا السائدة مع هذا المفهوم من الناحية السياسية بصورة مختلفة جداً عن طريقة التعامل المطروحة في الدول التي يمكن إطلاق وصف «الد يمقراطية» عليها. فلدينا يعتبر البعض أن الشك والظن «إثم»، وهذا صحيح، على أساس أن الآية الكريمة تقول « يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم»، ولكن هذا «البعض» من الظن يبقى محل اختيار مقلوب بين ثقافتنا وثقافة غيرنا.
وللتوضيح، فإن النظام الديمقراطي المعمول به في الدول التي يمكن وصفها بهذه الصفة يقوم على أساس «الشك المشروع»، بل ووجوب الظن والشك في كل شخص أو جهة تصل إلى موقع السلطة، على أساس أن «السلطة تفسد»، ولذا فإنه يجب مراقبة من يمسك بالسلطة، ويجب إخضاعه للمحاسبة، ويجب وضع حدّ زمني لتواجده على كرسي السلطة، بحيث يمكن إزالته عبر الانتخابات والوسائل السلمية كل أربع أو خمس سنوات، أو في أي وقت يفقد الماسك بزمام السلطة ثقة الناخبين أو من يمثلهم. ولذا، فإن جميع الإجراءات والأنظمة والقوانين تقوم على اعتماد الشك، وإن على من يمسك بالسلطة أن يثبت للبرلمان وللصحافة ولمؤسسات المجتمع المدني المستقلة أنه بعيد عن الشك في وقوعه في مفاسد بسبب تسلمه زمام الأمور، ويجب أن يثبت قدرته على تحقيق الأهداف... وفي حال ثبت أنه اقترب من الفساد، أو أنه لا يستطيع تحقيق الأهداف فإن العملية السياسية السلمية تتكفل باستبداله على أساس مفهوم تداول السلطة.
أما الثقافة التي سادت في بلداننا فإنها بالعكس، إذ إن الحاكم يشكّ في شعبه، ويظن بهم السوء، و لا يمكن محاسبته، بل يقوم هو بمراقبة ومحاسبة الشعب على حسب المزاج وبحسب الضرورة أو الخوف من احتمال ثورة الشعب عليه. وهذه الحالة ليست لها علاقة بالإسلام، وإنما هي منتشرة في كل البلدان التي لا تنعم بعدالة ومساواة في نظمها السياسية، ولكن الفرق هو أن الاستبداد عمّر كثيراً في ديار الإسلام، واحتاج الحكام الى تفسيرات دينية لتبرير شك الحاكم في شعبه، ولتبرير كل ما يود الحاكم أن يفعل بشعبه... وهذا هو العائق الأساسي أمام تحقيق الدولة الحديثة، سواء كنا في مجتمعات تؤمن أو لا تؤمن بالإسلام أو بأي دين أو مذهب.
منصور الجمري
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2983 - السبت 06 نوفمبر 2010م الموافق 29 ذي القعدة 1431هـ