أحيانـًا ما تشعر أن الناس يتصرفون ليس عن إرادة حرة أو حسب قناعتهم، ولكن لأنهم يعرفون أن القصة دائماً هكذا... هناك مسارات محفورة على الرمال والناس يفضلون أن يمشون فيها على أن يجربوا مسارات جديدة.
مثلًا نجمة السينما هذه... نعرف أنها كانت فاتنة وكانت من أهم ممثلي الإغراء... انتهى عصرها أخيراً وملأت التجاعيد وجهها. هنا تقوم بواجبها... هي تعرف أن عليها أن تجن... تعتزل العالم مع كلب شرس ولا يراها أحد تقريباً، ومن يراها يكتشف أنها ملطخة بالأصباغ كمهرج السيرك في محاولة لأن تخفي هذه التجاعيد...
لابد أن يصير صوتها غليظًا كالرجال وأن تدخن بشراهة. هل انتهى الأمر؟.. لا.. هي تعرف أن من واجبها الحتمي أن تموت بالسرطان، أو يجدوها مقتولة في شقتها ولا يعرف أحد القاتل أبداً...
هناك مسارات أخرى كثيرة.. مثلاً كنت أذهب لصلاة الجمعة فأقابل ذلك الرجل غريب المظهر. عباءة سوداء ثمينة على كتفيه فوق جلباب أبيض... هناك كيس بلاستيكي يضع فيه صحف اليوم كلها حتى لا تتسخ يداه... هناك مظلة صغيرة تتعبه جداً فيفتحها ويغلقها بلا توقف... هناك مسبحة في يده... هناك نظارة سوداء على عينيه.. أسنانه مستعارة لذا لا يكف عن الضغط على طاقم الأسنان ليحدث صوتاً مريعاً يجعل شعر رأسك ينتصب... الخلاصة أن تأهبه للصلاة يستغرق نصف ساعة إلى أن يرتب كل هذه التجهيزات...
عندما رأيته خطر لي أنه متنكر كموظف حكومي مرتش على المعاش، وهو يحاول أن يتوب قبل أن تأتي الوفاة... لكن هل يتنكر بهذه الدقة؟... تبادلت حديثاً مع رجل يعرفه وسألته عن هوية هذا الرجل، فقال لي:» هو موظف حكومي مرتش على المعاش، يحاول أن يتوب قبل أن تأتي الوفاة!»
حقًا ؟... لم يخطر هذا ببالي... لكن لماذا يتنكر بهذه الدقة؟... لو كنت أنا موظفاً حكومياً مرتشياً على المعاش أحاول التوبة لارتديت أي ثياب عادية «كاجوال»، ولن أعذب نفسي بكل هذه التفاصيل... لكن الرجل يعرف أنه لابد أن يبدو هكذا على مسرح الحياة... هذا هو الماكياج المناسب لدوره...
ذات مرة مشيت في حي منعزل فخرج لي قاطع طريق «بلطجي»... لم يكن بحاجة لبطاقة هوية. في يده مطواة قرن غزال ويلبس كنزة مخططة بالعرض، وعلى رأسه قلنسوة صوفية وفي وجهه جرح عميق تمت خياطته قديمًا... كرش بارز عملاق يمنعه من التدلي حزام عريض... وحول الساعدين القويين سواران من الحديد...
قبل أن يفتح فمه ليأمرني بإعطائه المال، كنت قد أفرغت جيوبي في كفه لأريحه... الأمر واضح جلي وهو يؤدي دوره جيداً بماكياج متقن، إذن لا داعي لإضاعة الوقت... فيما بعد أبلغت الشرطة عنه، عرفت أنهم قبضوا عليه فأخرج مطواته ومزق لحم ساعديه... يعرف أن البلطجية كلهم يفعلون هذا ليظهروا أنهم لا يخافون شيئًا... كانت معه أقراص مخدر كالعادة... باختصار لم يترك شيئاً في الكتاب لم ينفذه...
طريقة المسارات هذه تعذبني.. أحياناً أحضر حفل زفاف فأنظر لوجه العروس الملطخ بالأصباغ ونظرة الاستهتار في عينيها... عندها أوشك على سؤالها عن موعد الطلاق. أنظر للزوج العضلي الشرس الذي ينظر لما حوله ككلب بوليسي يقظ... أعرف يقيناً ما سيحدث وكم من صفعات ستتلقاها العروس من هذا الشرس، وكيف سيجعلها توقع على كمبيالات وشيكات على بياض ليخرب بيتها قبل الطلاق...
أمس فتحت باب بيتي لأجد امرأة تضع مساحيق كثيفة، وهي تنظر حولها في قلق، فلما رأتني ضحكت ضحكة ذات معنى... القصة واضحة إذن... ولكن هل وصل الأمر إلى أن تقرع باب بيتي؟... صدمتني هذه الجرأة وأغلقت الباب بغلظة في وجهها، لكنها كانت مصرة... دقت الباب من جديد... هذه المرة لم تكن تضحك... قالت في غلظة:
ـ«أنا معلمة الفرنسية التي تعلم ابنتك... لا أعرف سبب غلقك الباب في وجهي، لكن يبدو أن الرجال يجنون في سن الخمسين.. هذا شبه محتوم»..
.
#داحمدخالد_توفيق