كان لي صديق لمسته عصا الأدب السحرية؛ فاشتعل وتوهج، وكان مجنونًا بكتابة القصة القصيرة، وبالطبع كنت أنا ناقده وقارئه الأول -إن لم يكن الأوحد- وقتها. كان متديّنًا شديد التحفّظ ويؤمن أن الأدب يجب أن يكون عملًا أخلاقيًا، لكن شيطان الفن الجامح كان يغلبه كثيرًا.
القصة التي عرضها عليّ، تحكي عن رجل فظ يعيش وحده بعد ما طلق زوجته، وهناك امرأة غسالة قبيحة في الخمسين من عمرها تأتي لتغسل ثيابه مرة كل أسبوع. هذه المرأة تدعى الست غالية. وقد كانت لها مغامرتها الخاصة عندما كانت جالسة على المقعد الخفيض في الحمّام، بينما وابور الجاز يئن بما عليه من غسيل في طشت، وهي توشك على غسل سروالٍ له. هنا فوجئت بورقة بخمسين جنيهًا في جيب السروال. كان الإغراء أقوى منها، ومن ثم دسّت الورقة في صدرها. لكن الرجل رأى المشهد بالصدفة؛ فاقتحم المكان وهو يزأر. انهارت المرأة تمامًا أما هو فقد استبدّت به الرغبة في الانتقام مع إغراء وهن المرأة؛ فنالها هناك حيث هي.. وهي لا تجسر على الاعتراض، مع أنها لم ترق له قط، ولم يعتبرها أنثى في يومٍ من الأيام.. هو نوع من الاستخسار لا أكثر.
قرأت القصة فقلت لصاحبي إنها مكتوبة جيدًا، لكنها تفوح بالجنس. ألا ترى هذا معي؟
هكذا فطن للأمر وتوتر. صراع نفسي حاد بين إعجابه بالقصة المكتوبة بإحكام موباساني متقن، وبين الرجل المتديّن في داخله الذي يؤمن بأخلاقية الأدب.
كان لنا صديق يدعى (عثمان السمالّوطي). عبارة عن غوريلا آدمية قوية العضلات شديدة البأس. يأكل كثيرًا، ويشرب كثيرًا، ويضرب كثيرًا، ويعرق كثيرًا، ويبول كثيرًا، ويشتهي كثيرًا. قال لي صاحبي إننا سنجرب.
ذهبنا للسمالّوطي في بيته ليلًا؛ فاستقبلنا متوجّسًا بسبب هذه الزيارة الغامضة. قال له صاحبي:
"أنا كتبت قصة قصيرة.. هناك موقف جنسى معيّن في القصة، وأرغب في معرفة إن كان قادرًا على إثارة مشاعر وخيال الرجل العادي أم لا. لهذا قررت أن أطلب رأيك".
بدت المسئولية على وجه السمالّوطي. شعر بالخطورة والأهمية. جلب لنا الشاي ثم جلس في ركن الغرفة. ناوله صاحبي الأوراق فأخذ هذا شهيقًا عميقًا وراح يقرأ. يهز بعصبية قدمه العملاقة التي تشبه قدم كينج كونج في الشبشب الأزرق.
راح صاحبي يشرب الشاي وينظر له في توتر. السمالّوطي ينفخ من منخريه. عيناه تجحظان. يضحك. يقطب. يعبث في أنفه. ثم في النهاية خنفر كالثيران والعرق يغمر جبينه، وناول صاحبي الأوراق قائلًا له في إنهاك:
"لقد غلى دمي فعلًا. هذا الموقف مثير بحق! لا أقدر على استكمالها".
هكذا نهض صاحبي في خطورة وأريحية، وأخذ منه القصة ومزقها إربًا ثم وضع بقاياها في مطفأة السجائر. اتجهنا للباب فصافح السمالّوطي وقبّله وشكره كثيرًا على الخدمة التي قدمها للأخلاق.
وما زال صاحبي يقدم أعماله التي يحرص على أن تكون شبه معقّمة، ويلعب تحت سقف ضيق جدًا ابتناه لنفسه بسبب شعوره العارم بالمسئولية. لكني ما زلت أرى تلك القصة جيدة ويمكن أن تُكتب من جديد، لكني لن أفعل ذلك. أعتقد أنك خمّنت أن أول حرف من اسم صديقي هو د. أيمن الجندي!
لم أر السمالّوطي منذ سنوات. أرجو ألا أكتشف أنه صار كاتب قصة قصيرة، وأن باكورة أعماله هي قصة عن الست غالية، وكذلك أدعو الله ألا يكون قد تهجم على الغسالة التي تأتي لتنظيف ثيابه، فأنا لا أعرف تأثير تلك القصة على شخصيته!
• من مقال: ست غالية والسمالّوطي.