حجم العداوة بينهما كان ضخماً. وكان عداءً فلسفياً وشخصياً في آن معاً. ففي حين أن مئات الطلاب كانوا يتوافدون على هيغل في جامعة برلين التي هزها هزا بدروسه الفلسفية، لم يكن يقبل على دروس شوبنهاور في نفس الجامعة إلا حفنة قليلة من الطلاب.أحيانا أربعة أو خمسة أو عشرة على أكثر تقدير. كان نجاح هيغل الباهر يزعج شوبنهاور ويقض مضجعه. وقد لعب الحسد والغيرة دوراً في ذلك بدون شك. ولكن الأمور كانت تذهب إلى أبعد من ذلك. ففلسفة شوبنهاور كانت مضادة تماماً لفلسفة هيغل. كان هيغل يعتقد بإمكانية التقدم، والتوصل إلى الحرية السياسية عن طريق العقل والعقلانية. وكان متفائلاً بمسيرة التاريخ البشري على الرغم من الكوارث والمآسي التي قد تحصل على الطريق. فالتاريخ يمشي إلى الأمام في رأيه على الرغم من كل شيء، وحتى عندما يعود إلى الوراء خطوة، فإنه يفعل ذلك لكي يقفز خطوتين الى الأمام فيما بعد. وعندما أصدر "فينومينولوجيا الروح" عام 1807 وعمره لا يتجاوز السابعة والثلاثين، كان قد أطلق أهم كتاب في تاريخ الفلسفة منذ مائتي سنة. وهذا الكتاب الذي ما كان إلا بمثابة مقدمة في نظره لكتاب آخر أضخم لم يجيء أبدا يروي المنشأ المنطقي للوعي البشري وصعوده الذي لا يقاوم. إنه يروي قصة حقيقية أو بالأحرى ملحمة طويلة: أي كيفية تشكل الثقافة الأوروبية وصعودها منذ البداية وحتى الآن. في هذا الكتاب، ذي النفس الملحمي الوثّاب، توجد جميع بذور النظام الفلسفي الهيغيلي اللاحق.
وفي رأيه إن التاريخ يمشي بشكل منطقي عقلاني على الرغم من كل المظاهر التناقضية واللاعقلانية التي توهم بالعكس. فالتاريخ لا تلغيه صدفة ما أو بعض الحوادث الناشزة والتي تبدو وكأنها مضادة لحركة التاريخ العامة. والتاريخ أهم من الفرد، لأن الفرد لا يحتل إلا مكانة محدودة بالقياس إلى الحركة العامة للتاريخ. وهيغل كان يقدم نفسه كناطق رسمي بإسم حركة التاريخ، أو كسكرتير للمطلق الكوني أو المفهوم الأعلى! وبالتالي فهو لم يبلور في هذا الكتاب العملاق أفكاره الشخصية، وإنما إكتفى برصد حركة التاريخ، أو بوصف كيفية نشوء الوعي وصعوده على مدار التاريخ. لقد فسَّر هيغل الواقع كله، أو قل لخصه، في كتاب واحد. ولكن على الرغم من ذلك فإن الكتاب لم يلق النجاح المأمول في المكتبات. هل نعلم مثلاً أن الطبعة الأولى التي صدرت في 750 نسخة فقط لم تنفد إلا بعد ثلاثة عشر عاماً؟... كان هيغل يناضل من أجل المصالحة بين المطلق (أو المثال)/والواقع، وبين العقل/والتاريخ، وبين الروح/والعالم. من هنا نفهم كلمته الشهيرة : كل ما هو واقعي عقلاني. فحتى لو ظهرت في التاريخ أشياء مضادة لكل ما هو عقل ومنطق، وحتى لو حصلت حروب ومجازر وزلازل وشرور وبراكين، فإن التاريخ يظل يتقدم في نظر هيغل. لماذا؟ لأننا لا يمكن أن نصل إلى الإيجاب قبل المرور بالسلب، ولا إلى السعادة قبل المرور بالشقاء، ولأنه ينبغي أن ندفع الثمن باهظاً قبل ان نتحرر ونتطور.
فالتقدم لا يحصل بشكل مجاني، أو بدون عرق ودماء وفواجع. لهذا السبب إخترع هيغل المنهج الجدلي القادر وحده على مصالحة الفكر مع الواقع، أو العقل مع التاريخ. وهو المنهج الوحيد القادر على إستيعاب العناصر السلبية الناشزة في التاريخ. فكل أطروحة تحتوي على أطروحة مضادة لها، والتفاعل الجدلي بينهما هو الذي يحرك التاريخ ويولّد التركيبة النهائية التي تتجاوزهما، وهكذا دواليك... وبالتالي فلا ينبغي أن نخشى أو نيأس إذا ما وجدنا التاريخ ينتكس، أو يتراجع، أو تحصل فيه كوارث وحروب ومصائب، لأنه من رحم هذه الأشياء سوف تتقدم حركة التاريخ. وهذا هو مضمون كلمته: كل ما هو واقعي عقلاني. بمعنى أنه حتى الأشياء السلبية جداً لها ضرورتها المسجَّلة في أحشاء الواقع. على هذا النحو يمكن تجاوز كل التناقضات التي تحصل في التاريخ لكي تتقدم حركة التاريخ إلى الأمام، ولكي ينكشف معنى وجوهر التاريخ ... هذا هو التصور الملحمي الرائع الذي قدمه هيغل لتفسير التاريخ البشري، والذي سيطر بواسطته على الفلسفة الحديثة كلها. وأصبح جميع الفلاسفة مضطرين للتموضع بالقياس إليه: إما معه وإما ضده.
وأما شوبنهاور فقد قدم تصوراً مختلفا تماماً. ففي رأيه ان العقل لا يمثل الحقيقة العليا، ولا مسار الروح في التاريخ. وإنما هو فقط أداة نستخدمها للتوصل إلى بعض الأشياء. وهي أداة محدودة على أي حال وربما إنتهازية. فالطبيعة فينا تتجسد وتعمل على هيئة إرادة عمياء بدون هدف محدد، ولا تقدم، ولا دياليكتيك ... ونحن جميعاً عبارة عن دمى تلعب بنا الغرائز والشهوات دون أن ندري، دمى متحركة تتلاعب بها الرغبة العارمة بالحياة. وفي حين أن فلاسفة عصره كانوا يحاولون (وهم يفكرون بالتاريخ الكوني) أن يفبركوا المعنى والأمل إنطلاقاً من الأحداث الوحشية والمجنونة، كان المتوحّد شوبنهاور مصراً على تشاؤمه بالبشر والتاريخ. لم تكن لديه أوهام عن أي شيء، وكان يقول بأن العالم هو دائماً نفس الشيء: إنه عبثي، مرعب، بشع. وإذا ما تغير شيء على السطح، فدائماً نحو الأسوأ ... هكذا نجد أنفسنا أمام تصورين مضادين للتاريخ: الأول متفائل(هيغل)، والثاني متشائم(شوبنهاور).
الأول يؤمن بإمكانية تقدم الجنس البشري او تحسين أوضاعه نحو الأفضل، والثاني يائس لا يعطي ثقته لأي شخص بشري. وبالتالي فالمصالحة كانت مستحيلة بين هيغل وشوبنهاور في جامعة برلين. فمثلاً هيغل ما أنفك يحاول المصالحة بين الدين والفلسفة، ويتجاوز بذلك تلك التناقضات أو سوء التفاهمات التاريخية التي حصلت بينهما. هذا في حين أن عدوه شوبنهاور كان ينفر نفوراً كبيراً من الدين ويرفض الإيمان جملة وتفصيلاً. في الواقع إن الفلسفة الحديثة ما زالت تعيش على هذا الإنقسام التاريخي الكبير الذي حصل بين هيغل وشوبنهاور. أليس ماركس تلميذاً لهيغل؟ أليس نيتشه تلميذاً، ولو عاصياً، لشوبنهاور؟ وفرويد أليس تلميذاً طيّعاً له؟ ألا ينبغي التذكير بأن مدرسة فرانكفورت لا تزال تعاني من هذا الإنقسام الخطير بين قطبي الفلسفة الألمانية؟ في الواقع إننا عندما نتفاءل نصبح من جماعة هيغل، وعندما نتشاءم ونكفر بما يحصل لنا من متاعب نصبح من جماعة شوبنهاور. شوبنهاور يعزينا لأنه يقول لنا بما معناه: ما حصل شيء بسيط وكان يمكن ان يحصل لكم ما هو أبشع. كان يمكن ان يذبحكم أحدهم بالسكين بسبب أو حتى بدون سبب! فإحمدوا الله على السلامة. ولا تثقوا بهذه الحياة التافهة والعابرة. وموقفه يذكرني بالمعري الذي أمضى حياته في شتم الحياة والتحذير من خياناتها وإغراءاتها. بل وكان يدعوها بإسم شائن: أم دفر:
يا أم دفر لحاك الله والدة
فيك الخناء وفيك البؤس والسرف
لو أنك العرس أوقعت الطلاق بها
لكنك الأم مالي عنك منصرف
كلاهما كان يكره المرأة ويشبه الدنيا بها كغانية لعوب. بل ووصل الأمر بشوبنهاور إلى حد أنه شك بأمه وأتهمها بأنها كانت وراء موت والده المقعد لكي تتفرغ لحياتها الخاصة وعشاقها بعد أن ملت من ربه!
أيا يكن من أمر فإن هيغل وشوبنهاور وجهان لعملة واحدة: أقصد عملة الحياة ... فالحياة غامضة ذات وجهين. أحياناً تدفعنا نحو التفاؤل والإبتسام، وأحياناً أخرى نحو التشاؤم والعبوس. ولكن لا يمكن الإنكار بأن هناك هوة سحيقة تفصل بين الرجلين. كان هيغل يقول بكل تواضع: ما هو ذاتي أو شخصي في كتبي خاطئ ولا معنى له. وأما شوبنهاور فكان يقول بدون أي تواضع: لقد تعلَّمَت البشرية مني دروساً لن تنساها!... والغريب العجيب أن المتفائل كان ينبغي أن يكون شوبنهاور وليس العكس. فشوبنهاور كان غنياً جداً لأنه ورث عن أهله ثروة طائلة. وكان يستطيع أن يعيش على أعلى المستويات دون أن يشتغل أو يسعى في مناكبها كما يقال ويجهد نفسه. وأما هيغل فكان ابن عائلة متواضعة، وقد أضطر للعمل كمربّي للأطفال عند العائلات الألمانية الغنية. ولم يصل إلى التوازن المادي إلا بعد أن أصبح أستاذاً للفلسفة في جامعة برلين. ولكنه وصل متأخراً بعد أن كابد وعانى كثيراً. ومع ذلك فان المتفائل الواثق بالحياة كان هو وليس شوبنهاور .
قهوة سادة