أشعر بخجل من نفسي لأنني غير مشغول على الإطلاق في أي لحظة.. يقترح صديقي أن يمر علي في الثالثة بعد الظهر فأوافق، ويعرض الثامنة مساء فأوافق.. يقترح أن يزورني الآن فأوافق.. يطلب مني مهمة فأوافق على أن أنفذها حالاً.. هكذا ينظر لي في شك وشيء من الازدراء.. هل حقًا لا يشغلني شيء على الإطلاق؟.. هناك تعبير يصف هذه الحالة من الفراغ بأنها «تفلية القطط».. أي إنني لا أجد ما يشغلني سوى التقاط البراغيث من فراء القطط.. الحقيقة أنني مشغول أنا الآخر لكن اليوم 24 ساعة، وأعتقد أنه يتسع لكل شيء لو أحسنا التصرف..
عندما يدعوني إلى ندوة أقدمها أنا فإنني أصل هناك قبل الموعد بنصف ساعة، بينما لا يصل أي واحد من الجمهور أو من دعوني للندوة.. وأجلس وحدي في المدخل أنتظر.. ثم يصل الناس فيندهشون لأن وقتي متسع لهذه الدرجة. بعض من كانوا يعجبون بي يراجعون موقفهم.. هل من الحكمة أن تعجب بشخص لا يشغله أي شيء على الإطلاق؟
حتى عندما أبدي قدرات عقلية معقولة.. مثلاً أتذكر تاريخ معركة حربية أو أظهر براعة في تعلم اللغة الأترورية، فإن هذا يدل الناس على أن عقلي خاو تمامًا وليس لدي ما يشغلني، بينما هم منهمكون بعظائم الأمور.
ليس هناك إنسان يتحمل أن تكتشف أنه ليس مشغولاً.. كلهم مشغولون.. كلهم مهمون جدًا بينما أنا الشخص الوحيد غير المهم في العالم.. طلبت من صديق أن أزوره فقال إنه مشغول جدًا.. في النهاية قال إنه سيسمح لي بخمس وخمسين دقيقة. بدا لي هذا غريبًا.. لماذا لا تكون ساعة؟.. ثم فطنت إلى أن هذا من صميم الأهمية.. كل شيء محسوب بالثانية.
زرته وجلست معه.. هنا استغرقنا الحديث فاستغرقت الجلسة ساعتين وهو لم يتذكر قط.. ثم جلس إلى شاشة الكمبيوتر وأراني كيف يقوم بتلوين الصور الأبيض والأسود لتصير ملونة، وعرض علي برنامجًا جديدًا للتحريك.. ثم أراني مجموعته الخاصة من الضفادع، وعلمني كيف يلقي لها بالحشرات في القفص الزجاجي ويراقب طريقة التهامها.. ثم بعد قليل نظر لساعته وأعلن أنه مشغول جدًا.. هكذا انصرفت شاعرًا بالخجل لأنني غير مهم، برغم أن جلستنا السابقة بدت أقرب شيء إلى تفلية القطط بالنسبة لي..
صديق آخر حدثني عن تعقيد حياته، وكيف أن وقته محدد بأعشار الثواني، حتى حسبته يعمل في وكالة ناسا. لما جلسنا بعد ذلك وجدت أنه يجري محادثة «شات» مع أرملة حسناء.. استغرق الشات ساعتين على الأقل.. ويبدو أنه يكرر هذا ثلاث مرات يوميًا…
بالطبع هناك أشخاص مشغولون فعلاً، ووقتهم ثمين فعلاً، لكني تعلمت مع الوقت أن هؤلاء أميل للصمت.. أما الشخص الثرثار الذي يصدعك بالكلام عن انشغاله وعن وقته الثمين، فهو غالبا ألعن عينة من العاطلين في العالم .. لديه فراغ قاتل ولا يجد شيئا يفعله على الإطلاق..
البديل أنه يقنع نفسه ويقنع الناس أنه مشغول جدا..
أما الدرس الأهم الذي تعلمته بعد هذا العمر فهو: لا تكن صريحا.. لو لم تكن مشغولاً فلا تقل هذا أبدا لأنه ينزل بك درجات في عيون الآخرين. عندما يطلب أحدهم شيئا منك فعليك التفكير وطلب مهلة.. ولتظهر على وجهك أن طلبه هذا قد دمر جدولك الزمني وربما أدى لتشريد مئة أسرة كانت تعتمد عليك في أمورها.. صحيح أن طلبه قد يكون أن تشعل له السيجارة بقداحتك، لكن لا تفعل هذا بسرعة.. بل يجب أن يتم بصعوبة ويستغرق وقتا..
لا تذهب لأي موعد في الموعد.. هذه نصيحة مهمة لكرامتك ونظرة الآخرين لك.. حتى لو لم تجد شيئا تفعله، وحتى لو كان عندك ساعة تمضيها في تفلية القطط على الرصيف، فافعل ذلك.. يجب ان ينتظرك الآخرون بأي ثمن.. ولو استطعت ألا تذهب لأنك مشغول فهذا أفضل..
إن مجموعة من المتظاهرين بالانهماك هم أقدر الناس على التقدم بهذا المجتمع.. أعني التظاهر بأنه متقدم!. على الأقل سوف يوجدون عالما من القطط بلا براغيث!
.
د. #أحمدخالدتوفيق