أفراد الأسرة العلوية والهوية المصرية..
ما من شك أن أفراد الأسرة العلوية التي حكمت مصر لقرن ونصف من الزمان تقريبا، ينتمون جميعا لأصل تركي عثماني بحكم النشأة، فقد نشأ محمد علي باشا في قوله من بلاد اليونان، وكانت التركية العثمانية هي لغته التي ظل يتحدثها إلى نهاية عمره. جاء إلى مصر وعمره يقارب على ثلاثين عاما، وعاش بها أكثر ما عاش خارجها وبها دُفن. تعلم العربية ليقترب من زعماء الشعب في سنواته الأولى، ولكن ظل لسانه تركيا ثقيلا في نطق العربية، لا يعتاد مخارجها ولا يفهم كثيرا منها، ولذلك سرعان ما عاد للغته الأم بعد أن تولى السلطة، وظل معتزا بهويته التركية العثمانية طوال حياته، في الملبس والمأكل وكل سُبل المعيشة، وحتى في الطراز المعماري الذي اختاره لكل المباني الحكومية والقصور في عهده. بعكس ابنه إبراهيم باشا، والذي أتى إلى مصر صبيا لا يتعدى 16 عاما، يحمل هوية والده ولسانه بالطبع، ولكنه كان أكثر ذوبانا في الهوية المصرية منه، ومن إخوته أيضا طوسون واسماعيل. حيث تعلم إبراهيم العربية بلهجة أهل مصر، وكان يتحدثها معظم الوقت قريبا من جنوده، كما افتخر بانتصاراته العديدة على الأتراك، وحينما ذكره أحدهم بأنه تركيا رفض ذلك، وقال: "بل مصريا مصرتني شمسها وأرضها منذ أتيت" ! فكان أول من تكلم عن القومية المصرية من قبل ان تُولد او يعرفها أحد.
ومنذ عهد سعيد باشا منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، إزدادت الهوية المصرية في أسرة محمد على أكثر من الأول، وازداد قربهم من المصريين، فقد وُلد سعيد باشا في مصر، وتعلم التركية والعربية في المدرسة التي أسسها محمد علي باشا لتعليم أولاده افراد اسرته، وسافر لبعثة دراسية في فرنسا، وعاد ليلتحق بالبحرية المصرية جنديا من ضمن مشاة البحرية، قبل أن يتدرج في مناصب القيادة. فكان أقرب للمصريين من والده، يتحدث لغتهم ويأكل معهم وينام بجوارهم، وكان لهذا أكبر الأثر في علاقته معهم بعد توليه السلطة. وجاء الخديوي إسماعيل أقرب واقرب، فصارت العربية (بلهجة أهل مصر) هي اللغة المحكية في قصور الفاميلية ودواوين الحكومة، إلى جانب التركية التي كانت مفهومة إلى حد بعيد. ومن بعده إبنه توفيق ومن بعده عباس حلمي الثاني، حيث صارت العربية هي اللغة الرسمية للدولة، بها تكتب القرارات والقوانين والدستور والصحف اليومية المتداولة، وتلاشت التركية تماما بعد أن مات أغلب أفراد الفاميلية من الجيل القديم. وفي عهد الملك فؤاد وابنه فاروق، صارت التركية العثمانية نسياً منسياً بعد أن هجرها الأتراك أنفسهم للغتهم الحديثة، واتخذ ملوك مصر الإيطالية والفرنسية والإنجليزية لغات ثانية (الثقافة)، بعد لغتهم الاولى (الأم) وهي العربية.
فلو طبّقنا على أسرة محمد علي قوانين المواطنة الحديثة، والتي لم تكن موجودة وقتها، لانطبقت بالكامل! ولو تقدموا في أي مكتب للخارجية على الحصول على الجنسية المصرية (والتي لم تكن موجودة أيضا قبل عام 1924) لحصلوا عليها بسهولة، أولئك الأتراك العثمانيين الذين اختاروا مصر موطناً، بها وَلدوا وعاشوا وحكموا أهلها لسنوات طوال، وبلسانها تكلموا، وبها ماتوا ودُفنوا أيضا.
#وقال_الراوي