حلم الإمام الحسن نهج للتسامح الإجتماعي
الشيخ حسن الصفار - 23 / 12 / 1999م - 10:20 ص
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
من أبرز صفات الإمام الحسن التي عرف بها صفة الحلم، حيث اشتهر عنه أنه (حليم أهل البيت) وروى المدائني عن جويرية بن اسماء قال: لما مات الحسن اخرجوا جنازته فحمل مروان بن الحكم سريره، فقال له الحسين: (تحمل اليوم جنازته وكنت بالامس تجرعّه الغيظ؟ قال مروان: نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال)[1] .
وهذه الصفة في الحقيقة هي منهج للتعامل الإجتماعي عمل الإمام على إرسائه في حياته، وعلى اتباعه ومحبيه أن يقتدوا به في هذا المنهج.
اننا يجب أن نقرأ حلم الإمام الحسن كمنهج في التسامح الإجتماعي، ونعمل على تأهيل المجتمع بهذه الصفة.
ولابد لنا أن نشير إلى أن أهل البيت عليهم السلام كلهم يتصفون بالحلم، إلا أن الظروف التي عاشها الإمام الحسن اقتضت وساعدت على بروز هذه الصفة في شخصيته بشكل اجلى وأوضح فالإمام كان يواجه تشنجات واستفزازات من جهتين:
الجهة الأولى: خارجية، وتتمثل في معاوية بن أبي سفيان وجبهة الشام، حيث سعى بكل جهده وقوته وإمكانيات سلطته وحكمه إلى أن يشوّه سمعة الإمام الحسن لعزله شعبيا، فعمل على إثارة الدعايات والاشاعات الكاذبة والمغرضة على الإمام الحسن وعلى ابيه أمير المؤمنين، واستطاع نتيجة لذلك أن يوجد تياراً في الشام يكره أهل البيت عليهم السلام حتى لقد صدق بعضهم أن علي بن أبي طالب لم يكن يصلي!!
ولقد كان معاوية يتعمد كثيراً أن يُسمع الحسن وفي حضوره بعض الاستفزازات وكان بعض اتباعه والمقربين منه كمروان ابن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة يقومون بمثل هذا الدور.
الجهة الثانية: داخلية، حيث ان قرار الإمام بالصلح مع معاوية، والذي فرضته عليه الظروف، ورعاية مصلحة الأمة، اثار مشاعر بعض المحيطين بالإمام، ونظروا إلى الصلح على أنه موقف ذل وخنوع واستسلام، فراحوا يوجهّون لو مهم العنيف، وعتابهم الشديد وبعبارات مسيئة وغير لأئقة.
فهذا حجر بن عدي الصحابي الجليل يخاطبه قائلاً: (أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك) وعدي بن حاتم يقول: (اخرجتنا من العدل إلى الجور). وبشير الهمداني وسليمان بن صرد الخزاعي يدخل كل منهما عليه هاتفاً: (السلام عليك يا مذل المؤمنين). وخاطبه بعض اصحابه قائلاً: (يابن رسول الله اذللت رقابنا بتسليمك الامر إلى هذا الطاغية)[2] .
وجاء في (الإصابة): (كان اصحاب الحسن يقولون له: يا عار امير المؤمنين. فيقول: العار خير من النار)[3] .
ومثل هذه الكلمات لا شك انها تستفز الإنسان وتؤجج غيضه، لكن الإمام الحسن واجهها بحلم واناة بالغين، واستطاع بذلك امتصاص الآثار والنتائج السلبية التي يمكن ان تتمخض عنها… لقد كانت جبهة الإمام الحسن بحاجة إلى التماسك والتلاحم، فهناك شروط على معاوية ان ينفذها لكنه اذا رأى جبهة الإمام متشتته مختلفة، ومكانة الإمام مهزوزة في وسط جماعته، فان ذلك سيشجعه اكثر على تجاهل تلك الاتفاقات، وهو لم يكن في الاساس عازماً على الوفاء بها.
الحلم لغة واصطلاحاً:
مصدر حَلُمَ فلان أي صار حليماً، قال ابن فارس الحِلم: خلاف الطيش، وقال الجوهري الحِلم الأناة، ويقال: حَلَمَ الرجل في منامه يحَلُمُ حُلْماً، اذا رأى رؤيا، وحَلُمَ يَحلُمُ حِلماً تأنى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة وقوة.
واصطلاحاً: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب كما يقول الراغب [4] .
«قيل للإمام الحسن : ما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس»[5] ، أي أن يسيطر الإنسان على نفسه حينما يواجهه الآخر بتصرف مستفز ذلك إن غريزة الغضب تتحرك عنده لتحميه من الاستفزاز الموجه إليه.
ولكن الحليم هو من يتحكم في توجيه هذه الغريزة ولا يستخدمها إلا في ظرفها المناسب، لأن إتاحة الفرصة لهذه الغريزة أن تنفجر على شكل تصرف غاضب، قد يضر الإنسان بدلاً من أن يفيده.
وكم من مظلوم تصرف تصرفاً طائشاً وتحول بسبب ذلك التصرف إلى ظالم مدان فأعطى الفرصة لعدوه يقول الإمام علي : «الغضب شر إن أطلقته دمر»[6] .
إن الغضب في الحقيقة هو نتيجة استثارة خارجية يستقبلها الإنسان فتحفزه على اتخاذ رد فعل غاضب.
وللتحكم في هذه الغريزة ولتوجيهها التوجيه المناسب تنصح التوجيهات الإسلامية بذكر الله تعالى، ففي الحديث القدسي «يا بن آدم إذا غضبت فاذكر غضبي»، وقال : «يا علي لا تغضب فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد وحلمه عنهم وإذا قيل لك اتق الله فانبذ غضبك وراجع حلمك».
وليس أروع من أن يداوي الإنسان ثورة غضبه بلجوئه إلى العبادة فصلاة ركعتين قربة الى الله تعالى باخلاص وخشوع لاشك أنها ستنقل الإنسان إلى الاتصال بعالم الكمال والروحانية حيث يستلهم الإنسان من خالقه فيوضات رحمته والطاف كرامته.
كما تنصح بعض الروايات بالانتقال من حال إلى حالة أخرى عند الغضب. عن أبي ذر أن رسول الله قال: «اذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فان ذهب عنه الغضب والا فليضطجع».
والهدف من ذلك، هو تفريغ شحنات الغضب في حركة لا ضرر فيها. وفي حديث عن الرسول أنه ينصح بالوضوء قال : «ان الغضب من الشيطان، وان الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء،فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
أضرار حالة الانفعال والتشنج:
تسود البعض من الناس حالة من التشنج والانفعال السريع لأتفه الأسباب،كما يفسح المجال لفورة غضبه ان تأخذ مداها العنيف، وهذه الحالة سيئة ومضرة وأهم نتائجها السيئة أمران:
أولاً : الأضرار الصحية، حيث تشير التقارير الطبية الى أن الغضب والانفعال يعتبر سبباً لأمراض السكري وضغط الدم وأمراض القلب ولهذا فإن أهم ما يوصي به الأطباء هؤلاء المرضى هو السيطرة على النفس وعدم الأنفعال.
ثانياً: اضعاف حالة التماسك الاجتماعي، حيث ينشغل أفراد المجتمع بمشاكلهم الجزيئة والثانوية التي تذكيها حالة التشنج، وفي غمرة كل ذلك تتلاشى الأهداف والطموحات الكبيرة، التي كان ينبغي أن ينشغل الكل بها، فيتأخر تحقيق المجتمع للأهداف والمصالح العامة، بسبب الانشغال بالخلافات الهامشية.
الحلم منهج اجتماعي:
تارة يكون الحديث عن الحلم باعتباره صفة فردية حميدة، وتارة يبحث الحلم كحالة اجتماعية عامة، بين أحاد أفراد المجتمع، وبين التكتلات والتجمعات فيه.
إذ من الواضح أن في كل مجتمع تقسيمات اجتماعية متفاوته مناطقية وسكنية، أو عشائرية وقبلية، أو فكرية ومذهبية، أو انتماءات سياسية، وما اشبه.
والسؤال كيف يجب أن تكون العلاقة بين كل مجموعة واخرى؟
ان شيوع حالة التشنج والغضب يؤثر على علاقة هذه الانتماءات، فتقاطع كل فئة الأخرى، أو توجه بعضاً من جهودها للمناوئة و التخريب على الجهة الأخرى.
أما إذا ساد الحلم، وشاع التسامح بين التجمعات والتوجهات تحول الحلم حينئذ الى منهج اجتماعي عام، وآتى ثماره في تحقيق وحدة المجتمع وانسجامه، وتوجه جهوده وطاقاته نحو الاهداف الكبيرة والتحديات الخطيرة.
ومن الملاحظ أن الخلافات والصراعات بين الجماعات، عادة تحدث بسبب تصرفات فردية متشنجة لدى هذا الطرف أو ذاك فيتعامل معها الطرف الآخر بنظره تعميمية ويتخذ رد فعل على اساسها.
كيف نتعامل مع التشنجات الفئوية؟
أولاً: عدم تعميم الاساءة ومحاسبة كامل الجماعة عليها.
ثانياً: بث روح التسامح والإغضاء عن الإساءات التي قد تصدر من هذه ضد تلك وبالعكس، حيث ينبغي أن يتصف أفراد وقادة الجماعات بالحلم لأن تلك الاساءة قد تكون نتيجة لسوء فهم أو التباس أو لأن جهة ما تريد أن تخلق مشكلة بين الطرفين.
ثالثاً: عدم رفع وتيرة الاختلاف الفكري والثقافي الى مستوى الخلاف والنزاع، ونشر ثقافة التعددية والقبول بالرأي الآخر، ان تضخيم الخلاف حول بعض القضايا الجانبية كثبوت هلال شهر رمضان أو العيد، أو اختيار مرجع تقليد، أو تبنى هذه الفكرة أو تلك، واعتبار مثل هذه القضايا الجزئية حدوداً فاصلة بين الايمان والكفر، والعدالة والفسق، امر خاطئ ناشئ من الجهل أو سوء الخلق.
نهج الامام الحسن:
لقد كان الحلم منهجاً سلوكياً ومعلما بارزاً في حياة الامام الحسن وكان يتعامل به في مقابل الاستفزازات الفردية العادية ومع ذوي التوجهات المخالفة له والمختلفة معه، وكشاهد على المنحى الاول يروى انه كانت عنده شاة فوجدها يوماً قد كسرت رجلها، فقال لغلامه:« من فعل هذا بها؟ »قال الغلام: أنا. قال الامام:« لم ذلك؟ »قال الغلام: لأجلب لك ألهم والغم.
فتبسم ، وقال له: «لأسرك، فأعتقه وأجزل له في العطاء»[7] .
وضمن المنحى الثاني ينقل المؤرخون انه اجتاز على الامام شخص من أهل الشام ممن غذاهم معاوية بالكراهية والحقد على آل البيت فجعل يكيل للامام السب والشتم، والامام ساكت لم يرد عليه شيئاً من مقالته، وبعد فراغه التفت الامام فخاطبه بناعم القول وقابله ببسمات فياضة بالبشر قائلاً:
«أيها الشيخ: أظنك غريباً؟ لو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك ولو استحملتنا حملناك، وان كنت جائعاً أطعمناك وان كنت محتاجاً أغنيناك، وان كنت طريداً آويناك» ومازال يلاطف الشامي بهذا ومثله ليقلع روح العداء والشر من نفسه حتى ذهل ولم يطق رد الكلام، وبقي حائراً خجلاً كيف يعتذر للامام وكيف يمحو الذنب عنه؟ وطفق يقول: (الله أعلم حيث يجعل رسالته)[8] .
إن مما يساعد على اتخاذ الموقف الحليم فهم الطرف المقابل ومعرفة الظرف النفسي، والفكري الذي يحيط به، فإذا فهمت أنه مضلل، أو معبأ وأنه هو الآخر ضحية لعدو واحد، كنت أقدر على السيطرة على الموقف وتحويله لصالحك لا لصالح عدوكما.
ولهذا فإن العاقل هو الذي يملك الحلم، يقول علي : «بوفور العقل يتوفر الحلم»[9] ويقول: «عليك بالحلم فإنه ثمرة العلم»[10] ويقول الرسول الأكرم : «والذي نفسي بيده ما جمع شيء الى شيء أفضل من حلم الى علم»[11] ، فالعالم هو الذي ينبغي ان يتحلى بالحلم، لأنه يتفهم سلبيات الجاهلين ودوافع اخطائهم.
ويحدث أحياناً أن يفد على المجتمع أفراد من مجتمعات أخرى، يحملون معلومات وأفكاراً مضلله حول المجتمع وأفكاره وعقائده.
فإذا كان الشخص المقابل لهم واعياً يعرف أنهم بسطاء ومضللون فإنه يستوعب أولاً الصدمة التي يحدثها كلامهم، ثم يبدأ في تغيير تلك الصورة المشوهة، ويعطي للوافد باخلاقه وسلوكه مثالاً حياً على خطأ تصوراته السابقة.
أما إذا كان من يقابله شخصية متشنجة، فسوف يستفزها ذلك الكلام لترد عليه بكلام أقسى وباتهامات ونعوت مضاده، وهذا الأسلوب غالباً ما يؤدي الى تأكيد التصورات الخاطئة عن المجتمع.
ومن المثير للدهشة والعجب أحياناً أن يعتبر هؤلاء الأشخاص تصرفاتهم المتشنجة تلك بطولات وانجازات تستحق الذكر والاشادة فترى بعضهم، يحدثك عنها وكأنه انتصر على عدو، وهو لا يعلم أنه بذلك أكد هزيمته.
ففي الحديث عن الرسول : «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»[12] .
وفي ذكرى الامام الحسن ما احوجنا الى قرائة سيرته العطرة، والتزام خطه الرسالي، والاخذ بمنهجه في التسامح الاجتماعي، لتسود اجواءنا المحبة والوئام، ولنتوجه لمواجهة الاعداء والاخطار صفّاً كالبنيان المرصوص، اللهم اجمع شمل المسلمين ووحد كلمتهم يا ارحم الراحمين.