الإمام علي متأملاً في الطبيعة
قاسم حسين
قاسم حسين ... كاتب بحريني
Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com
من المحطات التي استوقفتني هذا العام وأنا أعيد قراءة «نهج البلاغة»، خطبة استهلها الإمام بحمد الله، والثناء على رسوله (ص)، ثم انتقاله لوصف بعض أصناف الحيوان.
لم يكن عليٌّ (ع) عالم طبيعة، وإنّما كان مفكّراً، متعلقاً بالملكوت الأعلى، يرصد الظواهر ويسجّلها بأدبه البديع وقلمه البليغ. ونجد عدة لوحات وصفية لبعض الحيوانات، كالطاووس الذي جيء به ضمن الغنائم ذات يوم، وتَعجَبُ كيف تلقّاه الإمام، وهو رأس الدولة، متأمّلاً مدقّقاً، يتحدّث عن خوالج هذا الحيوان، وزهوه حين ينفش ريشه، وانكسارته حين ينظر إلى قدميه.
لم يكن هذا الوصف ترفاً ولا لعباً بالكلمات، من رجلٍ يحمل همّ أمةٍ توشك أن تدخل في مرحلةٍ من الضياع والفراغ السياسي، وإنّما كان تمثلاً للأسلوب القرآني، بالتفكّر في عجائب المخلوقات لإدراك عظمة الخالق... «ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق». ويقودك عليٌّ لتتأمل معه في دقائق المخلوقات: «ألا تنظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوّى له العظم والبَشَر». ويقدّم لك مثالاً تمرّ به كل يوم لكنك لا تتوقف عنده، فيوقظك بقوله: «انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، وصُبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرّها لبردها، مكفولةً برزقها، مرزوقةً بوِفقها، لا يغفلها المنّان، ولا يحرمها الديان». فمتى طافت مثل هذه التأملات بعقولنا وأحيت قلوبنا؟
ويقودك إلى مرحلةٍ أعلى وأدقّ من التفكير: «ولو فكّرت في مجاري أكلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها (الشرسوف ضلع على طرفه غضروف)، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً. فتعالى الذي أقامها على قوائمها». ثم يدعوك لترفع رأسك وتتأمل ما حولك: «فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجّر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وتفرق هذه اللغات، والألسن المختلفات... فالويل لمن جحد المقدّر وأنكر المدبّر. زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع».
ومن النملة الكادحة، ينتقل إلى وصف الجرادة ذات النزوات، كأنما وضعها على طاولة مختبر، ليفحصها تحت مجهر، بهذا الأسلوب الأدبي المسكِر الرشيق: «إذ خلق لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمعَ الخفي، وفتح لها الفمَ السوي، وجعل لها الحسَّ القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبض، يرهبها الزرّاع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعاً مستدقة». وكم تتناقل وكالات الأنباء ونشرات الأخبار ما تفعله أسراب الجراد بالزرع، في الدول الغنية والنامية، وما تتسبب به من خسائر في الاقتصاد، وحوادث للسيارات والطائرات.
ويخلص (ع) إلى الهدف على منهاج القرآن الكريم: «فتبارك الله الذي يسجد له من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، ويلقى إليه بالطاعة سلماً وضعفاً، فالطير مسخّرة لأمره، أحصى عدد الريش منها والنَفَس، وقدّر أقواتها، وأحصى أجناسها، فهذا غرابٌ وهذا عقاب، وهذا حمامٌ وهذا نعام. دعا كل طائر باسمه، وكفل له برزقه».
هذا هو تلميذ محمد (ص)، والإمام الأعظم، وهذه هي مدرسته للسالكين.
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3980 - الأربعاء 31 يوليو 2013م الموافق 22 رمضان 1434هـ