كيف تم تمزيق مُلك كسرى ؟!
عندما مزق "كسرى" خطاب النبي صلى الله عليه و سلم دعا النبي عليه بقوله : «اللهم مزق ملكه» ، فمزق الله ملكه فهل تعلم كيف مُزق ذلك الملك العظيم.
قرابة سنة 628 م إستلم "كسرى" (خسرو الثاني) رسالة النبي صلى الله عليه و سلم ، و في تلك الفترة كان "هرقل" إمبراطور الروم يشن الحملة المضادة ضد الفرس و يُمنيهم بهزائم ساحقة مذلة الواحدة تلو الأخرى ، في مصر ، في الأناضول ، في سوريا و في العراق.
لم يكتف بإستعادة الأراضي التي إحتلها الفرس خلال فترة قبل سنوات قلائل .. بل قام بالإستيلاء على مدن فارسية خالصة متوجهاً نحو عقر دارهم (المدائن) .. كيف لا .. و الوعد القرآني يقول: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين}.
مع تقدم الجيوش الرومية و تقهقهر الفرس ، هرب "كسرى" الجبان إلى مدينة (دستغرد) بالقرب من بغداد و أختبأ هناك بدون أن يعطي أي دلائل على أنه سيواصل الحرب أو يحاول إستعادة كرامة الفرس المهدرة.
و على أثر حنقهم و غضبهم من هزائمه المتواصلة ، قام وزراء الفرس بتحرير أبن كسرى "قباذ الثاني" الذي سجنه "كسرى" إثر خلاف بينهما ، و نصبوه ملكاً.
أول شيء فعله "قباذ" هو إلقاء القبض على أبيه ، و حبسه في قبو تحت الأرض ، و لمدة أربع أيام كان "كسرى" يموت شيئاً فشيئاً من الجوع و العطش ، حتى جاء اليوم الخامس و تم إعدامه بإطلاق السهام عليه ببطء ، من بداية اليوم حتى نهايته.
مات "كسرى" أبشع ميتة خلال أشهر من تمزيق رسالة النبي.
فهل أنتهى التمزيق ؟
بالطبع لا ..
و بعد أيام من تولي "قباذ" ، عقد صلحاً مذلاً مع "هرقل" ليتجنب سقوط المدائن ، و تعهد بإخلاء جميع الأراضي الرومية و غير الرومية ، بل و أرجع إليهم الغنائم و التحف التي أستولوا عليها قبل بضع سنوات فقط ..!!
ثم قام بقــتل جميع إخوانه الذكور الثمانية عشر 18 حتى يوطد أركان ملكه ، فهل نجى هو من التمزيق ؟ .. طبعاً لا ..
خلال أشهر من توليه العرش مات "قباذ" ، وبعد موته المفاجئ لم يكن هناك إلا أبنه ذو السبع سنوات "أردشير الثالث" ، نصبوه ملكاً .
ثم بعد سنة و نصف فقط تم قتل هذا الطفل (حفيد كسرى) على يد الجنرال "شهربراز"..
هذا "الشهربراز" كان حانقاً على "كسرى" و "قباذ" ، لأنه كان يعزو لنفسه الفضل في الإنتصارات القديمة التي لم يحافظ عليها كسرى بسياسته الغبية ، مما أستتبع الهزيمة المذلة في هجمة الروم المضادة ، و ضياع كل ماحققه من إنتصارات ،
و عندما عقد "قباذ" الصلح و أرجع كل شيء للروم أنخرط الجنرال الحانق في مؤامرات و دسائس أنتهت بقتل الحفيد ، و نصب نفسه ملكاً.
هاهو الجنرال الناجح قد رجع و صار ملكاً و نحى العرق الكسروي الفاسد عن العرش ، فهل سيخرج الفرس من التمزيق ؟ .. أكيد لا ..
بعد سنة واحدة فقط ، أي عام 630م ، تم نحر هذا الجنرال في (الإيوان) ، و تنصيب أبنة كسرى "براندخت" ملكة على فارس.
هذه الملكة حاولت بإستماتة إعادة ملك الأجداد ، من خلال عقد المصالحات مع الروم و القيام بإصلاحات داخلية ، كلها فشلت فشلاً ذريعاً في إعادة الإستقرار إلى المدائن ، و تم ذبحها بعد سنة واحدة فقط عام 631م.
تولت أبنة كسرى الثانية "أزمريدخت" العرش بعد أختها ، و للخروج من حالة الفوضى ، أقترح عليها أحد الجنرالات و أسمه "فروخ" ، أقترح عليها أن تتزوجه ، لكنها رفضت و قامت بقتله ، فجاء إبن ذلك الجنرال "رستم بن فروخ" ، و حاصر المدائن بجيشه و قبض على الملكة ، و قام بفقء عينيها ، ثم قتلها ... كل ذلك حصل خلال أشهر من توليها العرش ، أيضاً عام 631م.
ثم جاء "هرمزد الرابع" و هو ليس من سلالة "كسرى" بل من إحدى العائلات النبيلة ، و أستغل الوضع و نصب نفسه ملكاً في أحد الأرجاء ، و أستتبعه عدة من الطامحين في العائلات النبيلة في مناطقهم.
هل أنتهى التمزيق ؟
.. لا ..
إذ تم تنصيب حفيد آخر لكسرى ، هذا الحفيد هو "يزدجر الثالث" ، آخر ملوك فارس.
نصبوه في 632م ، و هو مراهق في السادسة عشرة ، و قائداً جيشه هما "رستم" و "فيروز" .. و هذين الإثنين كان بينهما مشاحنات و خصام ، لكنهما أتحدا من أجل الملك الجديد ، من أجل إعطاء أمل للنهوض .
و إذا بسيوف الجيوش الإسلامية تدق أبواب فارس ، أبتدأ الهجوم على الأراضي الفارسية بعد سنة واحدة من تنصيب المراهق ، أي في 633م و أستمرت ثلاث سنوات ، فطلب ملك "كسري" صلح و حلف مع الروم ضد العدو المشترك و هم المسلمون ، و بالرغم أن هرقل وافق على التحالف إلا أن الحلف باء بالفشل بسبب غباء "يزدجر" ..!!
ثم بعد ثلاث سنوات فقط ، عام 636م ، جاءت معركة (القادسية) ، فيها تم نُحِر الفرس مع أفيالهم ، و المسلمين يتقدمون نحو (المدائن).
"يزدجر" هرب ، و أستمر يهرب من مقاطعة فارسية إلى أخرى .. من قرية إلى قرية .. لمدة خمسة عشر سنة ..!!
في سنة 651م ، لجأ "يزدجر" إلى أحداً مقاطعات (خراسان) ، و كان حاكمها قد خسر أبناءه في حروب الفرس الفاشلة ، لذلك كان يحمل في صدره ما يحمل من الحقد على كسرى ، أرسل هذا الحاكم رجلاً إلى مقر إقامة "يزدجر" ، و عاجله بطعنة سكين في بطنه ، ثم جرده من ملابسه و مجوهراته ، وتركه يصارع الموت عارياً ..!!
وهكذا مات آخر ملوك الفرس ، مطعوناً في بطنه عريان ، كما مات جده تحت السهام ذليلاً مقهوراً و عطشاناً.
هذا هو التمزيق الإلهي.
المصدر :
- البداية و النهاية/ج4/ - إبن كثير
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.