#بئر_الغربة
السجن الداخلي - والذهب الاحمر .
رغم شعوري العميق بالامتنان للخدمة التي قدمها لي السيد عدنان هرماس وتلطفه باستضافتي ثم تَكَلُفه بنقلي الى سكن أصدقاؤه ، وشعوري بالامتنان للشباب أصدقاء عدنان الذين فتحوا لي بيتهم، الا ان حادثة المسدس أزعجتني وعكرت صفو حياتي .
وتسائلت ان كان هؤلاء الشباب أسوياء حقا في تصرفهم الارعن، وقد سمعت لاحقا بعض الأقاويل عن طلاب يوهمون اهاليهم بأنهم ملتحقون في الجامعات وهم في الواقع متسربون منها ، يمضون النهار وهو غارقون في النوم ومع غروب الشمس يخرجون كطائر البوم ويغرقون في الملذات، وقيل لي انهم يبعثون لاهاليهم ليرسلوا لهم اقساط الجامعات، ولكنهم في الواقع يسددون بما يصلهم من أموال اقساط سيارات وينفقون منها لإشباع الملذات .
وتبين لي لاحقا ان اكثر من ٥٠٪ من الشباب الذين يسافرون للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية ما يلبثوا ان يتسربوا من الجامعات وكثيرا منهم يسقط في متاهات الملذات والممنوعات ، وان نسبة الضياع تكون اعلى عند الطلاب الصغار الذين يذهبون للحصول على الدرجة الجامعية الاولى خاصة الذين يفتقدون نظام الدعم والرقابة الاجتماعي والذي يمنحه عادة الأهل والأقارب ومن نجح في تجاوز صدمة الاختلاف الثقافي.
واعود لاسرد عليكم ما جرى معي بخصوص السكن الاول بعد ان غادرت سكن الشباب بلا رجعه. فقد ذهبت صبيحة ذلك اليوم الى ادراة معهد اللغة، وحدثتهم بما جرى معي وطلبتُ منهم مساعدتي في العثور على سكن واذا كان سكن داخلي فهو الأفضل.
طمنتني مديرة المعهد انها ستأخذني الي بيتها اذا لم تتمكن من ايجاد سكن لي ، واجرت فتاة شقراء رهيفة وهي سكرتيرة معهد تدريس اللغة الانجليزية للأجانب اتصالاتها وانا جالس في مكتب الادارة ، وبعد فترة قصيرة طلبت مني حمل أمتعتي واللحاق بها ، وفعلا هذا ما فعلت واذا بها تدبر لي مكان في سكن الطلاب الداخلي المجاور لمبنى المعهد ، وطبعا هذا الامر كان أعجوبة نظرا للازدخام الذي تعاني منه هذه السكنات وارتفاع الطلب عليها وفي احيان كثيرة يتم حجز السكنات قبل مدة طويلة .
وهكذا دخلت السجن الداخلي بإرادتي مقابل دفع اجرة ثمانون دولار فقط لا غير في الشهر شاملا المنام والطعام، وأقول السجن بدل السكن لان نظام المعيشة في السكنات الداخلية هو اقرب شيء الى السجن ولو ان بابه يظل مفتوحا.
وصرت رفيق شخص في غرفه في الطابق الثالث من ذلك السكن اسمه مايكل ، وهو امريكي ابيض بل شديد البياض ، من ولايات الشمال وتحديدا من ولاية جورجيا وهو قادم الى جامعة رفرسايد لدراسة الفيزياء كونها واحدة من افضل الجامعات في هذا المجال كما قيل لي.
ورغم ان المسافة التي كانت تفصل بين أَسِرَتنا لا تزيد على المتر الواحد ، كنا لا نتحدث كثيرا ، وكنت اظنه لعدة ايام يكره العرب فهو مُقل في الكلام ، ولم يحدث ان تجالسنا او تشاركنا في اي شيء ، حتى حينما حدث زلزال بقوة ٥.٤ درجات على مقياس رختر ووجدنا انفسنا نهتز بعنف الى حد السقوط على ارض الغرفة راح هو في حال سبيله وانا رحت في حال سبيلي.
ولا اجد في ذاكرتي ما اذكره عنه رغم اننا بقينا رفقاء غرفة roommates حوالي ثمانية اشهر إِلا موقف واحد ، وهو انه في يوم استلم صندوق صغير من البريد مرسل له من طرف اهله ، وفتحه امامي وهو يتفاخر واظنه كان يعرف ما بداخله ، واذا به يحتوي حبة تفاح من التفاح الامريكي الاحمر، ولم ار في حياتي حبة تفاح اكبر منها ، ولو كنت انا الذي وصلتني تلك التفاحة لربما قسمتها مناصفة بيني وبينه دون تردد ، او لربما كنت وزعتها على زملاء السكن في ذلك الطابق ، لكنه التهمها لوحده وانا انظر اليه ، مطرح ما يسري يهري .
اما الطعام في ذلك السكن فكان شيء مذهل لا اقول خمسة نجوم فقط وانما ستة او سبعة نجوم ، وكان مطعم السكن يقدم ثلاثة وجبات افطار، وغداء، وعشاء ، وكان الافطار بيض أملت وعيون وعجة ومسلوق وبطاطا مهروسه غالبا واشكال اخرى ولحوم المرتديلا وخبز التوست والمربي والزبدة وألبان واجبان وأعشاب وسندوبشات فراوله وموز والعصاير والحليب وكانت هذه تقدم بالبراميل وللطالب ان يأكل ويشرب ما تشتهي نفسه في بوفيه مفتوح وللطالب ان ياكل حتى يصاب بالتخمة ان شاء .
اما الغداء فكان ايضا بوفيه مفتوح وكان يقدم فيه وجبات رئيسية لحوم بكافة اشكالها- دجاج واسماك وستيكات الأبقار وخضار وكل ما لذ وطاب ، وكنت اكثر ما احب أضلاع العجل المتبلة بصوص الباربكيو والمشوية بأفران ضخمة والبطاطا المشوية مع الكريما الحامضة .
ونفس الشيء في وجبة العشاء ، ولكن كان يغيب عن كافة الوجبات الخبز العربي بلونيه الابيض والأسمر ويسمونه هناك pita bread ، كما انني شعرت بتحسن شديد من اوجاع القولون التي لاحقتني من ايام جامعة بيت لحم واكل الفلافل والحمص والفول من مطعم فتيم هناك .
وكان الساكن ملزما بهذا النظام الغذائي واذا فاتته وجبة عليه ان ينتظر الوجبة التي تليها، او ان يشتري طعام من السوق على حسابه الخاص ، لكنني شخصيا لم اكن أتغيب عن اي وجبة حتى لا اضطر لدفع ثمن اضافي للطعام وهو متوفر بكثرة ، ولذلك لم احتاح اي مساعدة مالية خلال هذه الفترة، وتجنبت شراء اي شيء من السوق لخفض المصروفات ، وكان مبلغ ال ١٠٠٠ دينار كويتي التي حملتها معي كافية لتسديد كافة التكاليف والالتزامات طوال كورس اللغة والذي امتد حتى مطلع شهر أيلول١٩٨٠.
واذكر ان ذلك كان على زمن حكم الديمقراطيين وكان الرئيس كارتر ما يزال في الرئاسة لكنه ما لبث ذلك العام ان خسر الانتخابات لصالح ريغن لينعكس فوز الجمهورين على الاقتصاد بشكل واضح حيث شهدت البلاد ارتفاع كبير في الاسعار .
ومع الايام تعرفت من خلال الكافتيريا على شاب امريكي له شعر احمر وكان اسمه ديفيد و وجهه منمش ببقع بنية ، وفي يوم لاحظت انه جاء بكمية مهولة من الطعام ، وما ان انهى ما في الصحون حتى عاد واتى بمثل ما جاء به في المرة الاولى من ما طاب من الطعام، ولدهشتي اقتربت منه وسألته : ماذا تفعل يا ديفيد؟ بربك ما هذا الطعام؟ أجننت؟
تنهد ديفيد عميقا وصارحني انه كان قد باع دمه للتو حتى يتمكن من تسديد أجرة السكن الداخلي ، وانه كل ما باع دمه انكب على الاكل بكميات مهولة لتعويض الدم المباع وليتمكن من الاستمرار في بيع دمه ليدفع اجور السكن.
الصحيح انني ذهلت من هذا التصرف وعرفت ان ديفيد ليس الوحيد الذي يبيع دمه مقابل حفنة دولارت ، وتبين ان تجارة الدم تجارة رائجة هناك ويطلق عليها الذهب الاحمر نسبة الى لون الدم، وقد أسررت المعلومة في نفسي ان برزت الحاجة للمال .
وعلى الرغم من حياة الرفاه التي صرت اتمتع بها مقارنه مع حياة العزوبية في الكويت الا انني صرت اشعر بالوحدة تجتاح حنايا قلبي خاصة في نهاية الاسبوع حيث تشتعل الدنيا مواعيد ورقص ودانس وحفلات ، أوقات يلتقي فيها الاحبة والحبيبات ، وينكفئ فيها خالي القلب ، ليتقلى بعزلته ووحدته .
ومن الطبيعي ان يكون مثل هذا الشعور مضاعف عند الغريب الذي لا ينتمي للبيئة المنفتحة ولم يستطع حتى تلك اللحظة ان يكسر الحواجز الأخلاقية التي تكبله، وبينما كانت الدنيا تهتز حولي كنت انا امضي الكثير من الوقت ارسم جدارية وهي عبارة عن شجرة زيتون على حائط كرادور السكن الداخلي.
وكنت قد تعرفت في الجامعة على شاب لبناني من ال الخطيب، اذا لم تخني الذاكرة، واظنه كان يدرس الدكتوراه تخصص زراعة وله صديق عراقي اسمه زهير وهو طالب دكتوراه زراعه ايضا ، وكان الشاب اللبناني ودودا مبتسما دائم المرح والفرح وصاحب نكته، ودائما تراه مرتديا بدله وربطة عنق وكانه سلطان زمانه ، ويبدو انه لاحظ شيء من الكآبة تلوح في وجهي من اثر عزلة السكن الداخلي، وانقطاعي عن الناس ، واراد ان يُسري عني فعرض على ان اخرج معه في احد الليالي ، واذا به يصطحبني لمحل ترقص فيه النساء شبه عاريات ، فلم يطل بقائي في المكان وطلبت منه الذهاب الى مكان اكثر حشمة ، وهكذا حصل.
لكن لي مع هذا الشخص ومع زميله المهندس العراقي زهير موقف محرج للغاية لا تمحوه الايام من الذاكرة ، والموقف لم يحصل معي شخصيا وانما حصل بشكل رئيسي مع رفيق آخر وهو من غزه، من ال عايش، وحدث الموقف بحضوري وانا شاهد عليه، وربما مشاركا فيه ، واذكر انني تأثرت كثيرا بما حصل ، لكنني سأتوقف الان وعليكم الانتظار ان أحببتم للحلقة القادمة لتعرفوا ما الذي حصل حقيقة بيننا وبين الدكتور زهير العراقي ورفيقه اللبناني دائم الابتسام ...