في طفولتي عرض في مصر فيلم هندي شهير اسمه (الصديقان) ..حقق هذا الفيلم نجاحًا ساحقًا لا يمكن وصفه.. وصار حديث الناس في كل مكان، ومن الغريب أنهم وزعوا علينا تذاكر العرض في المدرسة الابتدائية، أي أن الحكومة ذاتها تعتبره ذا قيمة مهمة تربويًا..
من رأوه قالوا لنا وهم يمسحون عيونهم بالمناديل:
" فيلم مذهل.. لن تكف عن البكاء لحظة ! "
هكذا تلقيت درسي الأول في فن الدراما، وهو أن الفيلم الجيد يجب أن يبكي فيه الناس كأنهم في مأتم لأسرة احترق كل أطفالها. .
ثم ذهبت لرؤية الفيلم فوجدت التالي بلا أية مبالغة أو تلفيق:
في أول خمس دقائق من الفيلم عاد ( رامو ) إلى البيت سعيدًا ليقابله موظف وغد ..يخبره أنه سيُطرد من بيته هو وأمه .. يهرع ( رامو ) ليخبر أمه العجوز بهذه الكارثة فتصرخ وتصاب بنوبة قلبية وتموت .. يصاب بالذعر ويعبر الطريق باحثًا عن نجدة، هنا تصدمه سيارة ..
ويبدأ الفيلم به وقد فقد أمه وبيته وساقه وطرد من المدرسة ! يمشي على عكاز ويتسول .. ثم يفتح صنبور ماء في الشارع بحثًا عن جرعة ماء فلا يجد .. !
كنت جالسًا في قاعة السينما وسط زملائي الأطفال وأنا أعتصر عيني طلبًا للبكاء .. هذا رائع .. هذا مؤثر .. أنا حزين ..
لكني لم أستطع البكاء .. كنت أكتم رغبة عاتية في الضحك ، وتساءلت عما سيفعله كاتب السيناريو بعد ذلك ، وقد استهلك كل المصائب الممكنة خلال خمس دقائق .. أشهد أن الرجل كان عبقريًا واستطاع أن يخلق مصائب بمعدل مصيبة كل ثلاث دقائق ..
أدمنت الأفلام الهندية، وقد اكتشفت أنها تمنح ثلاث ساعات كاملة من الدموع والحزن والميلودراما والغناء والرقص والمطاردات، وهذا يعني أنها صفقة رابحة.. إنك تنال مقابل مالك وأكثر. عملية اقتصادية بحتة. وقد عرفت أن معظم هذه الأفلام تنتج في مومباي ويطلقون عليها اسم مدرسة بوليوود.
عرفت قواعد السينما الهندية التي لا تتغيّر ومنها:
البطلة تظهر أولًا مغرورة، ومتعالية وتمقت البطل، لكنه ولد ظريف جدًا وشقي.. يُغني ويرقص لها ويسقط شعره على وجهه، هكذا تبدي الغيظ، لكن ابتسامة تلقائية تفلت منها من حين لآخر سرعان ما تخفيها، بعد ساعة تهيم به حبًا.
أشرار هذه الأفلام كنوز في حد ذاتهم.. النظرة الشيطانية ورفع الحاجب الأيسر والشارب الغليظ والثراء الفاحش، لا يفعلون شيئًا طيبًا أبدًا لحظة واحدة.. اغت-صاب نساء وسرقة وخطف وقت-ل وتهريب مخدرات. دعك من التدخين طبعًا..
أما عن انتقام البطل فهو دائمًا مذهل ..
في أحد الأفلام حمل (أميتاب باتشان) تمساحًا عملاقًا من النهر على كتفيه ومشى به حتى قصر الشرير، ثم أطعم به التمساح في غرفة الصالون!
العالم صغير جدًا.. أي شخص تصطدم به في الشارع هو أخوك الذي لم تره منذ ثلاثين عامًا، وقد فرّق بينكما الفيضان
قواعد الطب فريدة في هذه الأفلام، وما زلت أذكر ذلك المشهد في فيلم (قمر أكبر أنطوني) حيث يتبرع الإخوة الثلاثة لأمهم بالدم.. هنا يتم نقل الدم بطريقة عبقرية هي أن يخرج خرطوم من ذراع كل ابن وتصب الخراطيم الثلاثة في وعاء كبير وهذا الوعاء يصب في عروق الأم!
طريقة تبرع بالدم لو سمع عنها (لاندشتاينر) مُكتشف فصائل الدم لمات من جديد.
لكن هذه الأفلام برغم كل شيء صفقة رابحة اقتصاديًا كما قلت ، كما أنها متعة البسطاء الحقيقية .. كنت أركب حافلة وقد جلس أمامي اثنان يبدو أنهما حرفيان ، وكان أحدهما يحكي للآخر قصة فيلم هندي رائع شاهده أمس :
-" البطل مدرس .. ولديه دراجة بخارية .. للبطل ثلاثة أصدقاء كلهم مدرسون وعندهم درجات بخارية كذلك ! "
انتهت القصة ! .. لكن المثير أن الحرفي الآخر راح يردد في لوعة :
-" خسارة ! ليتني ذهبت للسينما معك ! .. واضح أنه فيلم رائع ! "
نعم .. إن الأفلام الهندية علم شديد التعقيد ، فلا تتوقع أن أكتفي بمقال أو اثنين عنها !
أحمد خالد توفيق
عالم الأفلام الهندية....