عالمُ الذئاب
ده لكل ديب حكاية
فيها عبرة وآية
لا تشوفها في القراية
ولا عرفتها الكتابة
وقالوا علينا ديابة
واحنا يا ناس غلابة
في عام 1993, أطلَّ على الجمهور عملٌ درامي كلاسيكي من الطِّراز الأول. عملٌ يحمل بصمة الدراما الاجتماعية الصعيدية، بعاداتها وتقاليدها، وموروثاتها الفكرية والأدبية. عملٌ حملَ إمضاء الكاتب المبدع محمد صفاء عامر، وأخرجَه للنور المخرج الكبير مجدي أبو عميرة.. وكان عنوانه "ذئاب الجبل".
ذئاب الجبل.. هو أولُ تعاون بين كاتب السيناريو المميز محمد صفاء عامر والمخرج مجدي أبو عميرة، ليشملَ هذا التعاون ثلاث مسلسلات هي: (ذئاب الجبل، الضوء الشارد, والفرار من الحب).
صفاء عامر.. واحدٌ من الكُتَّاب الذين عالجوا في كتابتهم قضايا الصَّعيد الاجتماعية بشكلٍ بسيط ومميز، حيث تحدث عن قضايا الثأر، والعادات القبَلية في الصعيد، وكتب عنها أكثرَ من دراما اجتماعية شهيرة مثل: (حدائق الشيطان، أفراح إبليس، الضوء الشارد، ذئاب الجبل، وغيرهم).
ذئاب الجبل.. هو العملُ الاجتماعي الأكثر شهرةً على الإطلاق بينَ دراما التسعينيات، والذي بمجرَّد عرضه حقق نجاحًا طاغيًا في المشاهدة بين أفراد الجمهور المصري والعربي.
قامَ بأداء الأدوار كوكبةٌ من المبدعين، أسماء لامعةٌ صنعت متنَ العمل، بجانب ظهور وجوهٍ شابَّة أثبتت وجودها في هذا العمل, وفي دراما التسعينيات بشكلٍ عام، وأضاف لهم العملُ قدرًا كبيرًا من البهاء.
مَن منّا يستطيع نسيانَ علون أبو البكري؟ والذي أدَّى دورَه الكبير عبد الله غيث رحمه الله، والشيخ بدار (حمدي غيث) ودور دبور (أحمد ماهر)، بجانب بدري (أحمد عبد العزيز), وغيرهم الكثير من النجوم الذين أدّوا أدوارهم بشكل بديع متفرد، وكأنما الشخصيات قد تمَّ تفصيلُها لهم تفصيلًا.
وعنْ دور علوان أبو البكري، يقول صُنَّاع العمل إنَّه قام بأدائه في البداية المبدع الراحل صلاح قابيل، وقام بأداء أكثر من ثُلثِ المشاهد، ولكنَّه توفِّي أثناءَ ذلك، فقاموا بإسناد الدور إلى الراحل عبد الله غيث، الذي أبدع وتميز، حتى أدى أكثر من ثُلثي مشاهد الدور، وتوفّاه الله، فتشاءم صُنَّاع العمل وقرَّروا الاكتفاء بهذه المشاهد الذي أدَّاها عبد الله غيث، ولم يستعينوا بممثل آخر.
وتحدث أحمد عبد العزيز (بدري) في أحد البرامج, وقال إن أجره في هذا العمل كان لا يتعدى 450 جنيه عن الحلقة الواحدة.
أحمد ماهر (دبور) صنعَ واحدًا من أروع أدواره في هذا العمل، بجانب إتقان اللهجة الصعيدية بشكل مميز في العمل، والتي أشار إلى وجود مصحِّح لغوي للهجة الصعيدية معهم في مواقع التصوير.
الكبير الراحل عبد الله غيث (علوان أبو البكري) .. وكعادته صنع واحدًا من أجمل أدواره، شخصية علوان المركبة الشريرة، الذي يجعلك تهابه وتنقم عليه، وتكرهه بشدة، ولكنه يحمل بعضًا من اللمحات العفوية التي تجعلك تبتسم رغمًا عنك في بعض المشاهد، في تركيبة درامية عجيبة، وخلطة كتابية إخراجية متفردة، وسوف يدرك كلامي هذا من شاهد المسلسل.
ذئاب الجبل.. هي قصة قبيلة هوّارة التي تعيش في أقاصي الصعيد، وزعيم القبيلة الشيخ بدَّار صاحب الفكر الراجح، الذي يقرر أنْ يزوج ابنتَه لرجل غريب عن القبيلة، فيحتجُّ الجميع بمن فيهم أخوها بدري، لتهرب الأخت وتتزوج بعيدًا عن القبيلة، في الوقت الذي يكون فيه علوان محورُ الشرِّ الكبير، الذي يريد أن يستولي على زعامة القبيلة، والذي تزوج خادمته سرًّا، ومن ثمَّ يقتلها ويتمُّ اتِّهام البدري على أساس أنهم ظنوا القتيلة أخته، ليدور صراعٌ متشابك مغلوط، تتوه فيه الحقيقة، وتتكشَّف في النهاية, ويلتقي الأخوان بعد أن حلَّ الحب مكان البغضاء والكراهية في قلوبهم.
هي قصة العادات والتقاليد.. الأفكار والموروثات.. كل الأفكار الشائكة التي يثيرها محمد صفاء عامر، ويعرضها على المجتمع، ويأمل أن تكون هناك خيوط أملٍ لحلها من جذورها في الواقع.
ذئاب الجبل.. واحدٌ من الأعمال التي تشاهدها وتشعر معها بحنين وألفة عجيبة، دراما اجتماعية مشوقة، بالرغم من كون الكادرات والتصوير ككلِّ الدراما وقتها، مشاهد أغلبُها داخلية، إضاءة خافتة، الاعتماد الكلي على العنصر الإنساني، الموهبة والأداء فقط.. وهذا العنصر طغى وفاض في الحقيقة؛ ليخلق لنا دراما لا تُمحى من ذاكرتنا .. فالكل أبدع، وكأنما كانت مباراة داخلية قائمة بين الأبطال في حسن الأداء.
من ذكرياتي عن هذا المسلسل أنه أحدُ أكثر المسلسلات التي تفرغ فيها الشوارعُ من المارة، فالكل متابع ومتشوق، لمة عائلية ودفء بجوار التلفاز، الذي يعرض روائعَ الدراما المصرية، والتي يُنتجها "قطاع الإنتاج" المصري وقتها.
وأتذكر أنه في الحلقة الأخيرة، تجمع الناسُ بجوار التلفاز قبل إذاعة الحلقة بساعتين في انتظار النهاية, وتمَّ إعادة عرضها بناءً على طلب الجمهور.
صُنَّاع العمل استعانوا في صياغة التترات بالصعيدي المتفرد الخال عبد الرحمن الأبنودي، فكتب كلمات التترات والأغاني الداخلية، وكان هناك الملحن العبقري جمال سلامة، الذي استعانوا به من بعْد غياب، ليصنع روائعَ لحنيةً يشدو بها إمبراطور التِّترات علي الحجار.. لتخرج تترات ملحميَّة لا تُنسى من ذاكرة الجمهور الذي رآها وسمعها، لدرجة أننا نعرفها مِن "دخلتها".. في الحقيقة التترات عظيمة جدًّا.
في النهاية, هذا العمل يعدُّ واحدًا من أنجح وأقوى ما صنعتْ دراما التسعينيَّات المصرية، بل وعبرَ كلِّ العقود.
#دراما_مصرية_خالدة
د. أحمد مروان