ولكن لمَ تلجأ السلطات الجزائرية إلى اتهام المعارضة الراديكالية أو الانفصاليين بتهم الإرهاب وتعدّل القوانين في هذا المسار؟ على الرغم من أن هذه القوانين ذاتها تنصّ على جرائم يمكن أن تنطبق على هذه الحركات مثل جريمة القضاء على نظام الحكم أو تغييره((قانون العقوبات الجزائري، المادة 77 (معدّلة).))، والجواب هو رغبة النظام السياسي في تكييف خطاب مقنع للدول الغربية عمومًا نظرًا لحساسيتها في قضايا الإرهاب الدولي، وبالتالي تسهيل استلام القيادات المعارضة أو الانفصالية التي تعيش معظمها في هذه الدول.
وإذا كانت حركة الماك هي الحركة الانفصالية الأظهر في الجزائر، فهناك حركة أخرى تأسست سنة 2004 على خلفية التهميش والقمع بالجنوب الجزائري، وتُدعى حركة أبناء الصحراء من أجل العدالة، وفي الحقيقة لا يُعرف عن هذه الحركة تبنٍّ للانفصال بشكل علني، لكنها حركة بدأت بشكل سلمي ثم تحولت إلى العمل المسلح، وتصنفها السلطات في الجزائر كحركة إرهابية وانفصالية، وقد تراجع دورها بشكل كبير خاصة بعد مقتل زعيمها عبد السلام طرمون سنة 2018 بمنطقة سبها بليبيا((ياسر قاديري، “رمال متحركة… كيف يدفع القمع والتهميش جنوبي الجزائر إلى التمرد؟”، ساسة بوست، 20/02/2021، متاح على الرابط: (https://www.sasapost.com/algerian-south-and-the-states-opression/)، تمّت الزيارة بتاريخ 22/10/2021.)).
ويُعدُّ ملف قبائل الطوارق، التي تمتد وتتوزع على مختلف دول جنوب الصحراء كمالي والنيجر وليبيا((برباش رتيبة، “مشكلة الطوارق في منطقة الساحل الأفريقي وتداعياتها على الأمن القومي الجزائري”، المجلة الجزائرية للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، العدد 9، ديسمبر 2017، ص. 245.))، من الملفات بالغة الحساسية في معادلة الأمن القومي الجزائري. فقد شعرت الجزائر بثقله الاستراتيجي غداة قيام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بإنشاء معسكرات لتدريب الطوارق، ومحاولته إنشاء حركة “طارقية” تطالب بالاستقلال وإقامة دولة لها في المنطقة، وبعد سقوط نظام القذافي والتطورات المتلاحقة في شمال مالي دخلت “الجماعات المتطرفة” ((كجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تمثّل تنظيم القاعدة في مالي والساحل، وهي عبارة عن اتحاد ضمّ 4 جماعات متشددة بقيادة إياد أغ غالي زعيم جماعة أنصار الدين، وهو من قبائل طوارق شمال مالي، وجماعة تحرير ماسينا بقيادة أمادو كوفا، كما ضمّ هذا الاتحاد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب وكتيبة المرابطين. انظر تقرير وكالة الأناضول (shorturl.at/oqxQ5).))على الخط واختلطت بالجماعات الطارقية التي تناضل منذ عقود ضد تهميشها من طرف الحكومات المتعاقبة في مالي والنيجر، وكان هذا عامل تهديدٍ كبيرٍ أيضًا للأمن القومي الجزائري من ناحية الجنوب((برباش رتيبة، مرجع سابق، ص.ص 249-250.)).
وليس بعيدًا عن مناطق الطوارق بجانت وإليزي وكذلك منطقة ورقلة، شهدت منطقة غرداية تأسيس ما سمّي بـ”الحركة من أجل الحكم الذاتي” لوادي ميزاب، وهي منطقة يتعايش فيها المكوّن الإباضي الأمازيغي والمكوّن العربي المالكي منذ قرون، وقد أعلن عن إنشاء هذه الحركة الناشط الحقوقي كمال الدين فخار في يونيو 2014((عبد الله إبراهيم، “الإعلان عن ميلاد الحركة من أجل حكم ذاتي لميزاب”، التحرير، 02/06/2014، متاح على الرابط: (https://www.altahrironline.dz/ara/articles/32409)، تمّت الزيارة بتاريخ 24/10/2021.))، وينتمي فخار لتيار هامشي داخل المكون الإباضي – الذي لا يُعرف عنه النزعة الانفصالية بقدر ما تُعرف عنه النزعة الانعزالية للحفاظ على المذهب الإباضي- وقد عُرف فخار ومجموعته بعلاقاتهم الوثيقة مع حركة الماك وقربهم من النزعة البربرية عمومًا، وقد انتهى الوجود الفعّال لهذه المجموعة بعد وفاة كمال الدين فخار في مستشفى بالبليدة (غرب العاصمة الجزائرية) تبعًا لإضراب عن الطعام دام أكثر من 50 يومًا، نفّذه احتجاجًا على ظروف سجنه((فرانس 24، “الجزائر: وفاة الناشط الحقوقي كمال الدين فخار بعد إضرابه عن الطعام في السجن”، 28/05/2019، متاح على الرابط: (shorturl.at/tDIYZ)، تمّت الزيارة بتاريخ 24/10/2021.)).
وبالحديث عن الصحراء أو الجنوب الجزائري، لا تخطئ عين الباحث والمُلاحِظ تنامي النزعة الانفصالية لدى فئة الشباب على وجه الخصوص؛ بسبب التوزيع غير العادل للثروة والمشاريع التنموية بين مدن الشمال والجنوب، ففي حين يقف سكان الجنوب فوق مقدرات هائلة من بترول وغاز ومعادن تستخرج من تحت أرجلهم، لا يجدون عملًا ولا سكنًا ولا مستشفيات محترمة للعلاج بها((دالية غانم، “عقب أخيل الجزائر؟ جهوية الموارد في ورقلة”، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 11/05/2021، متاح على الرابط: (https://carnegie-mec.org/2021/05/11/ar-pub-84273)، تمّت الزيارة بتاريخ 23/10/2021.))، وبقياس وتيرة الاحتجاجات الشعبية تعرف مناطق الجنوب الجزائري وتيرة عالية جدًا مقارنة بمناطق الشمال، وعلى امتداد سنوات سابقة للحراك الشعبي الكبير في فبراير 2019((حجال سعود، “الحركات الاحتجاجية في جزائر اليوم: الفعل الاحتجاجي لدى الشباب البطّال، تحليل لأحداث الجنوب في ورقلة 2013″، مجلة مجتمع تربية عمل، عدد 1، رقم 1، ص. ص 29-46.))، بَلْهَ إن هذه الاحتجاجات المتصاعدة ساهمت بشكل فعّال في الوصول إلى لحظة الحراك الكبير التي أسقطت بوتفليقة وجزءًا من منظومة حكمه((يوسف كامل، “احتجاجات جنوب الجزائر … هل هي شرارة ثورة اجتماعية؟”، ساسة بوست، 16/07/2021، متاح على الرابط: (https://www.sasapost.com/south-algeria-protests/)، تمّت الزيارة بتاريخ 23/10/2021.)).
ثانيًا: مساعي تقسيم الجزائر
لا تنفّذ مشاريع التقسيم الخارجية ضد أي دولة ما لم تكن هناك قابلية داخلية للتقسيم والانفصال، فإن لم تكن هذه الثغرات الداخلية موجودة، صنعتها القوى الخارجية وصبرت عليها سنوات طوال، وفي هذا المسار الاستراتيجي طويل الأمد استثمرت فرنسا منذ احتلالها للجزائر في سياسة فَرِّقْ تَسُدْ، فدمّرت وأغلقت وحاصرت المؤسسات التي تعبّر عن الهوية الجامعة للجزائريين، والمتمثلة في اللغة العربية والدين الإسلامي، كالمدارس والكتاتيب والمساجد، ونفخت في الهويات الجزئية وعزّزتها، ففي حين كانت اللغة العربية محظورة في المؤسسات الفرنسية الرسمية للتعليم، قامت فرنسا بإنشاء شهادة البروفيهBrevet في اللهجة القبائلية بتاريخ 28/07/1885، ثم أنشأت بعدها دبلوم اللهجة البربرية بتاريخ 27/12/1887، وفي 25/02/1930 أنشأت فرنسا في كلية اللغات بجامعة الجزائر قسمًا خاصًا باللغة البربرية والحضارة البربرية يدرّسها فرنسيون((انظر الأرشيف الملحق في آخر المقال.)).
أدت هذه