السلام النووي:
تعود بنا هذه الحجة إلى بعض الفرضيات الأكثر استفزازًا، والتي دافع عنها وحاجج بها أتباع النظرية الواقعية البنائية على الدوام. كينيث والتز، وهو مؤسس الواقعية البنيوية، وجون جي ميرشايمر، أحد أبرز المنظّرين في مدرسة الواقعية الهجومية، فهما يجادلان بأن الأسلحة النووية جديرة بالملاحظة من ناحية أنها تعزز الأمن وتفرض حالة من السلام والاستقرار، ويرون أن انتهاء الحرب الباردة دون نشوب حرب فعلية نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أقوى مثال في دعم صحة هذه الفرضة.
ينبع جوهر الحجة الواقعية البنيوية من فكرة عقلانية الدولة؛ ففي ضوء أن الهدف النهائي لأي دولة عقلانية هو البقاء، فإن صانعي القرار سوف يعملون كل جهدهم من أجل تجنب خوض حربٍ نوويةٍ، وهي هذا النوع من الحروب التي لا يمكن أن تضمن أيّة دولٍ الخروج منها سالمة أبدًا؛ نظرًا لحجم الدمار الشامل الذي تخلّفه الأسلحة النووية. إن توافر نوع من الردع النووي المتبادل، كما يرى أصحاب هذه الفرضية، من شأنه أن يؤدي في المحصلة إلى بيئة آمنة.
من جهته، ولعقود طويلة، انتقد ميرشايمر وجهة نظر الغربيين حول الأسلحة النووية، وقال إن الغرب الليبرالي يبرع في تشويه سمعة الأسلحة النووية فقط انطلاقًا من مبادئ مثالية وليست واقعة، متهمًا وجهة النظر هذه بالتبسيطية من حيث إنها تتعارض مع المنطق المتأصل للردع النووي، والذي يؤدي في نهاية المطاف إلى منع وقوع الحرب في الأساس. ويرى ميرشايمر أن “الأسلحة النووية غالبًا ما تقلل من العنف الدولي، وأن الأسلحة النووية الأوكرانية، في حال بقائها، ستكون رادعًا فعّالًا ضد أيّ هجومٍ روسي تقليدي أو ابتزازٍ نووي. وأصر في مقالة له نشرها مع مجلة Foreign Affairs، في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، على أن وجود أوكرانيا النووية أمرٌ منطقي؛ لأنه من الضروري الحفاظ على السلام بين روسيا وأوكرانيا، وهذا من شأنه أن يفضي إلى التأكد من أن الروس، الذين لديهم تاريخ من العلاقات السيئة مع أوكرانيا، لن يتحركوا لإعادة احتلالها. ولا يمكن لأوكرانيا الدفاع عن نفسها ضد روسيا المسلحة نوويًا بأسلحة تقليدية، هذا ما أكده ميرشايمر في مقالته، ولن تقدّم أيُّ دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ضمانًا أمنيًا ذا مغزى لها. وخلص في نهاية مقاله إلى أن الأسلحة النووية الأوكرانية هي الرادع الوحيد الموثوق به للعدوان الروسي، والذي من شأنه أن يحافظ على أمن أوروبا((John J. Mearsheimer, The Case for a Ukrainian Nuclear Deterrent, FOREGIN AFFAIRS, Summer 1993.)).
وجدت أفكار منظّري الواقعية البنائية أصداءً لها داخل الأروقة الرسمية في أوكرانيا ما قبل الغزو الروسي الحالي؛ ففي أبريل 2021، صرّح سفير أوكرانيا في ألمانيا، أندريه ميلنيك، أنه يجب على الغرب زيادة دعمه لأوكرانيا وقبولها في الناتو؛ وإلا سيكون الخيار الآخر الوحيد أمام أوكرانيا هو تسليح نفسها، وربما “التفكير في الوضع النووي مرة أخرى”((Mariana Budjeryn, Revisiting Ukraine’s Nuclear Past Will Not Help Secure Its Future, LAWFARE, May 21, 2021.)). علاوةً على ذلك، وبعد أن ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني، اقترحت مجموعة من البرلمانيين من تيار الوسط انسحاب أوكرانيا من معاهدة حظر الانتشار النووي. وفي يوليو 2014، قدّم فصيل يميني في البرلمان الأوكراني مشروع قانون بشأن تجديد الوضع النووي لأوكرانيا، والذي يفترض أنه يستتبع الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وإطلاق برنامج محلي للأسلحة النووية (تمّ رفض مشروع القانون آنذاك). في النصف الثاني من عام 2014، ارتفع الدعم الشعبي لإعادة التسلّح النووي الأوكراني إلى ما يقرب من 50 في المائة، مقابل 33 في المائة في عام 1994((المصدر السابق.)).
تأثير الدومينو
تكمن خطورة فرضية السلام النووي في أنها لا تخضع لمبدأ التعميم؛ فنجاح هذه الفرضية في بيئات معينة لا يعني بالضرورة نجاحها في بيئات أخرى. فلا يمكن إجراء فحصٍ تجريبي لها على الإطلاق. وقد ارتبط نجاحها إلى حد كبير بالشروط الموضوعية التي وجدت فيها؛ حيث تمتعت الدول التي امتلكت السلاح النووي باستقرار أنظمتها السياسية واستمراريتها. وهذا يتضمن أن انتشار الأسلحة النووية في بيئات مغايرة قد يحمل معه نتائج مختلفة عمّا شهدناه في الفترة الماضية. وبناءً على ذلك لا يمكن الاحتكام إلى فرضية السلام النووي في تبرير منع الحرب وإحلال الأمن خصوصًا في بيئات تتصف بالهشاشة السياسية والأمنية كمنطقة الشرق الأوسط.
هناك تخوّف مشروع أن تؤدي الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تعزيز شهية العديد من الدول إلى امتلاك السلاح النووي لردع خصومها والحفاظ على وحدة وسلامة أراضيها، وهذا التخوّف يصبح أكثر إلحاحًا إذا ما كانت هذه الدول تتكئ على وسادةٍ رخوةٍ أمنيًا، وموجودة في إقليم يتصف بحالة مزمنة من عدم الاستقرار مثل الشرق الأوسط الذي تعاني العديد من دوله من أنظمة فاشلة. وهناك مؤشرات تدل على أن العديد من دول الشرق الأوسط تسعى إلى امتلاك التكنولوجيا النووية على الأقل لأغراض سلمية كما تصرح حكوماتها عادةً. إن انتشار السلاح النووي في مثل هذه البيئات الرخوة من شأنه أن يهدد السلم والاستقرار العالميين.
في الحقيقية يوجد في إقليم الشرق الأوسط “دولة” نووية، وإن كانت لم تعلن عن امتلاكها للسلاح النووي بشكل صريح حتى الآن وهي “دولة” إسرائيل، التي تشير التقديرات إلى أن ترسانتها النووية تتضمن 200 سلاحٍ نوويٍ تقريبًا. هذا فضلًا عن إيران التي تحاول تطوير برنامجها النووي منذ تسعينيات القرن العشرين، وقد أحرزت تقدمًا ملحوظًا جعل العديد من الخبراء يشيرون إلى أن إيران على مقربة من ثلاثة أشهر إلى سنة من امتلاك السلاح النووي، بالرغم من العقوبات التي تتعرض لها طهران منذ أربعة عقود.
بلا شكّ فإن امتلاك إيران للسلاح النووي سوف يغيّر قواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، ويؤدي إلى تأثير لعبة الدومينو. ففي مقابلة مع شبكة سي بي إس عام 2018، قال الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، إن “المملكة لا تريد امتلاك أيّ قنبلة نووية، لكن دون شك، إذا طوّرت إيران قنبلة نووية، فسنحذو حذوها في أقرب وقت ممكن”((Kingston Reif, Saudi Arabia Threatens to Seek Nuclear Weapons, Arms Control Association, June 2018.)).
وقد أشارت بعض التقارير الإعلامية إلى أن المسؤولين الغربيين قد أبدوا قلقهم مؤخرًا بشأن التعاون النووي بين الصين والمملكة العربية السعودية في بناء منشأةٍ لاستخراج الكعكة الصفراء من خام اليورانيوم، وهو تحوّلٌ كبيرٌ في برنامج الرياض النووي المدني. ووفقًا لهذه التقارير، يتمّ بناء المنشأة بمساعدة شركتين صينيتين في موقع صحراوي بعيد بالقرب من مدينة العلا شمال غرب السعودية، على أبعد مسافة من إيران((Victor Gilinsky and Henry Sokolski, Don’t Give Saudi Arabia An Easy Path to Nukes, Foreign Policy.)). وتُعدُّ الكعكة الصفراء، مكوّنًا حاسمًا لمفاعلات الطاقة والأسلحة النووية، على الرغم من أن الرياض نفت سعيها لامتلاك الكعكة الصفراء؛ إلّا أنها لا تخفي حرصها في ذات الوقت على تطوير قدراتها النووية المدنية على الاتجاهات كافة.
أمّا دولة الإمارات