وليس بعيدًا عن مناطق الطوارق بجانت وإليزي وكذلك منطقة ورقلة، شهدت منطقة غرداية تأسيس ما سمّي بـ”الحركة من أجل الحكم الذاتي” لوادي ميزاب، وهي منطقة يتعايش فيها المكوّن الإباضي الأمازيغي والمكوّن العربي المالكي منذ قرون، وقد أعلن عن إنشاء هذه الحركة الناشط الحقوقي كمال الدين فخار في يونيو 2014((عبد الله إبراهيم، “الإعلان عن ميلاد الحركة من أجل حكم ذاتي لميزاب”، التحرير، 02/06/2014، متاح على الرابط: (https://www.altahrironline.dz/ara/articles/32409)، تمّت الزيارة بتاريخ 24/10/2021.))، وينتمي فخار لتيار هامشي داخل المكون الإباضي – الذي لا يُعرف عنه النزعة الانفصالية بقدر ما تُعرف عنه النزعة الانعزالية للحفاظ على المذهب الإباضي- وقد عُرف فخار ومجموعته بعلاقاتهم الوثيقة مع حركة الماك وقربهم من النزعة البربرية عمومًا، وقد انتهى الوجود الفعّال لهذه المجموعة بعد وفاة كمال الدين فخار في مستشفى بالبليدة (غرب العاصمة الجزائرية) تبعًا لإضراب عن الطعام دام أكثر من 50 يومًا، نفّذه احتجاجًا على ظروف سجنه((فرانس 24، “الجزائر: وفاة الناشط الحقوقي كمال الدين فخار بعد إضرابه عن الطعام في السجن”، 28/05/2019، متاح على الرابط: (shorturl.at/tDIYZ)، تمّت الزيارة بتاريخ 24/10/2021.)).
وبالحديث عن الصحراء أو الجنوب الجزائري، لا تخطئ عين الباحث والمُلاحِظ تنامي النزعة الانفصالية لدى فئة الشباب على وجه الخصوص؛ بسبب التوزيع غير العادل للثروة والمشاريع التنموية بين مدن الشمال والجنوب، ففي حين يقف سكان الجنوب فوق مقدرات هائلة من بترول وغاز ومعادن تستخرج من تحت أرجلهم، لا يجدون عملًا ولا سكنًا ولا مستشفيات محترمة للعلاج بها((دالية غانم، “عقب أخيل الجزائر؟ جهوية الموارد في ورقلة”، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 11/05/2021، متاح على الرابط: (https://carnegie-mec.org/2021/05/11/ar-pub-84273)، تمّت الزيارة بتاريخ 23/10/2021.))، وبقياس وتيرة الاحتجاجات الشعبية تعرف مناطق الجنوب الجزائري وتيرة عالية جدًا مقارنة بمناطق الشمال، وعلى امتداد سنوات سابقة للحراك الشعبي الكبير في فبراير 2019((حجال سعود، “الحركات الاحتجاجية في جزائر اليوم: الفعل الاحتجاجي لدى الشباب البطّال، تحليل لأحداث الجنوب في ورقلة 2013″، مجلة مجتمع تربية عمل، عدد 1، رقم 1، ص. ص 29-46.))، بَلْهَ إن هذه الاحتجاجات المتصاعدة ساهمت بشكل فعّال في الوصول إلى لحظة الحراك الكبير التي أسقطت بوتفليقة وجزءًا من منظومة حكمه((يوسف كامل، “احتجاجات جنوب الجزائر … هل هي شرارة ثورة اجتماعية؟”، ساسة بوست، 16/07/2021، متاح على الرابط: (https://www.sasapost.com/south-algeria-protests/)، تمّت الزيارة بتاريخ 23/10/2021.)).
ثانيًا: مساعي تقسيم الجزائر
لا تنفّذ مشاريع التقسيم الخارجية ضد أي دولة ما لم تكن هناك قابلية داخلية للتقسيم والانفصال، فإن لم تكن هذه الثغرات الداخلية موجودة، صنعتها القوى الخارجية وصبرت عليها سنوات طوال، وفي هذا المسار الاستراتيجي طويل الأمد استثمرت فرنسا منذ احتلالها للجزائر في سياسة فَرِّقْ تَسُدْ، فدمّرت وأغلقت وحاصرت المؤسسات التي تعبّر عن الهوية الجامعة للجزائريين، والمتمثلة في اللغة العربية والدين الإسلامي، كالمدارس والكتاتيب والمساجد، ونفخت في الهويات الجزئية وعزّزتها، ففي حين كانت اللغة العربية محظورة في المؤسسات الفرنسية الرسمية للتعليم، قامت فرنسا بإنشاء شهادة البروفيهBrevet في اللهجة القبائلية بتاريخ 28/07/1885، ثم أنشأت بعدها دبلوم اللهجة البربرية بتاريخ 27/12/1887، وفي 25/02/1930 أنشأت فرنسا في كلية اللغات بجامعة الجزائر قسمًا خاصًا باللغة البربرية والحضارة البربرية يدرّسها فرنسيون((انظر الأرشيف الملحق في آخر المقال.)).
أدت هذه السياسة الاستعمارية القائمة على التمييز بين العرب والبربر، وتعزيز الهويات الجزئية إلى تفجّر ما عُرف بالأزمة البربرية سنة 1949 داخل الحركة الوطنية بقيادة الزعيم مصالي الحاج؛ حيث ظهر بشكل جلي تياران، الأول منافحٌ عن الهوية الجامعة التي تجد في اللغة والدين دعامتان أساسيتان لها، والثاني منافحٌ عن القومية البربرية ومتأثرٌ بالأطروحات التاريخية والأنثروبولوجيا الفرنسية((فاطمة لعجيمي، الأزمة البربرية 1949م وتأثيرها على مسار الحركة الوطنية الجزائرية، مذكرة لنيل شهادة الماستر في التاريخ، جامعة بسكرة، 2015، ص.10.))، وقد امتد هذا التشظّي وتوسّع إلى ما بعد قيام الدولة الجزائرية الحديثة، ولا يزال يُلقي بظلاله وبتوظيف من فرنسا إلى غاية اليوم؛ من خلال تعطيل مسيرة التعريب من طرف النخب البيروقراطية البربرية المفرنسة، وكذلك الدعم غير المحدود لحركة الماك وقياداتها المقيمة بفرنسا