التبادل المميت
ليس من السر الادعاء بأن استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي في الرابع والعشرين من أغسطس/آب 1991 فجّر مسألةً معقدةً جدًا تمثّلت بمخزون السلاح النووي الذي كانت تملكه أوكرانيا على أراضيها، والذي ورثته عن الاتحاد السوفيتي؛ لقد انتهى الأمر بأوكرانيا بُعيد الاستقلال بامتلاكها ثالث أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم. احتوى مخزنها النووي آنذاك على 4000 سلاح نووي، من بينها 1656 سلاحًا استراتيجيًا، بما في ذلك 130 صاروخًا من طراز SS-19s المزود بستة رؤوس حربية في كل صاروخ، و46 صاروخًا من طراز SS-24s المزود بعشرة رؤوس حربية في كل صاروخ، وعدد 30 من قاذفات Bear-H and Blackjack بمقدورها حمل ما يقرب من 416 قنبلةً((John J. Mearsheimer, The Case for a Ukrainian Nuclear Deterrent, FOREGIN AFFAIRS, Summer 1993.)).
ما كانت روسيا لتسمح أن تمتلك دولةٌ ــ على حدودها الجنوبية وتهدد عمقها الاستراتيجي ــ هذا القدر الكبير من الأسلحة النووية الاستراتيجية والتكتيكية على حد سواء، ففي حال نشبت حربٌ بين الدولتين، فهذه الأسلحة من شأنها أن تحوّل المدن الروسية الكبرى إلى رماد؛ لهذا كان الاعتراض الروسي كبيرًا، وقد هددت روسيا بأنها قد تقوم بعملية استباقية لحرمان أوكرانيا من قدراتها الردعية النووية إذا لم تقم بتفكيكها طواعية. وقد أدى تدخّلٌ مباشرٌ من الولايات المتحدة التي كانت تقود جهود حظر انتشار الأسلحة النووية إلى التوصّل لتفاهمات تنزع فتيل الأزمة. في ذلك الوقت، كانت واشنطن على مشارف بناء نظامها العالمي الجديد، وكانت تسعى جاهدةً لاسترضاء روسيا، وتحرص على ألّا يبدأ عهدها بحرب نووية قد تؤدي إلى نتائج لا يمكن أبدًا احتواؤها؛ ولذلك توصّلت الأطراف المنخرطة في الموضوع إلى توليفةٍ توافقيةٍ في بودابيست عام 1994، وقد سمّيت الاتفاقية باسمها أي اتفاقية بودابيست.
بموجب تلك الاتفاقية، تخلّت أوكرانيا عن أسلحتها النووية لروسيا، وفككّت جميع وسائل النقل الاستراتيجية بمساعدة تقنية أمريكية. وعلى إثر ذلك، انضمت أوكرانيا إلى “معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية” كدولة غير نووية في عام 1994، وبحلول منتصف عام 1996، غادر آخر رأسٍ حربي نووي أراضي أوكرانيا، وبحلول نهاية عام 2001، تمّ تدمير آخر صوامع الصواريخ الباليستية. وفي مقابل نزعها السلاح النووي، تلقّت أوكرانيا ضمانات أمنية من واشنطن ولندن وموسكو، فضلًا عن مساعدات مالية ووعدًا بالتكامل الاقتصادي والسياسي مع النظام الليبرالي الغربي.
ومع ذلك، وبعد عقود من هذه الاتفاقية التي لم تحظَ بتصديقٍ من المجالس التشريعية من الدول الأعضاء، ثبت أن تلك التأكيدات عبارةٌ عن وعود جوفاء، فلم تتمتع أوكرانيا مطلقًا بالاندماج الكامل في النظام الغربي سواء تجاه انضمامها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أو الاتحاد الأوروبي؛ وذلك بناءً على خلافات حدودية مع بعض دول الاتحاد، ومشاكل تتعلق بحقوق الأقليات اللغوية التي تعيش في أوكرانيا كالأقلية المجرية والرومانية. كما أن روسيا لم تكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لأوكرانيا في محاولة منها لإبقائها ضمن دائرة التأثير الروسية، وعندما أظهر الأوكرانيون مناعةً تجاه التدخلات الروسية، قامت موسكو بالاعتداء المباشر على وحدة أراضيهم من خلال ضمّ جزيرة القرم عام 2014، وتقديمها الدعم العسكري والمالي واللوجستي للمنشقين الأوكرانيين الناطقين بالروسية في شرق البلاد وتحديدًا في إقليم دومباس. أمّا عن التزام الغرب بأمن ووحدة وسلامة الأراضي الأوكرانية فقد تعثّر في ضوء المستجدات التي تحدث على الأرض حاليًا؛ الأمر الذي دفع الرئيس الأوكراني في بداية الغزو للتصريح بأن بلاده تُركت وحدها في مواجهة الغزو الروسي، وهذا لا ينفي أن أوروبا والغرب عمومًا بدأ يدرك جديّة الحرب، وضرورة دعم أوكرانيا في وجه روسيا.
في ضوء الوضع الحرج الحالي الذي وجدت أوكرانيا نفسها فيه، فقد أصبح من المشروع لدى الكثيرين خصوصًا داخل أوكرانيا التشكيك في الحكمة من التنازل عن أسلحتها النووية في المقام الأول. لقد أرادت أوكرانيا أن تكون نموذجًا في التخلي عن أسلحتها النووية طواعيةً؛ لتجد نفسها بعد ثلاثة عقود مكشوفةً أمام غزو روسي يهدد سلامة ووحدة أراضيها. هذا التشكيك يذهب حدّ التلميح إلى أنه لو حافظت أوكرانيا على قوات ردعها النووية، لما تجرأت روسيا على غزوها اليوم.
ما تتضمنه هذه الفكرة أنه إذا ما فشلت أوكرانيا في الحفاظ على سيادتها بعد أن تخلّت عن قدراتها النووية، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى انبثاق موجةٍ جديدةٍ من انتشار الأسلحة النووية على مستوى العالم؛ فهذه الدول التي تجد نفسها تحت التهديد سوف تلجأ إلى حيازة السلاح النووي كضمان لعدم الاعتداء عليها، خصوصًا في ظل نظام دولي فشل في توفير آليات أمن حقيقية تمنع الاعتداء على سيادة الدول وسلامة أراضيها. وهنا يعود إلى الواجهة سؤالٌ قديمٌ حديث: هل انتشار الأسلحة النووية من شأنه تعزيز الأمن؟