للجنرال من يُكاتبه
لا نستطيع الجزم بسبب جهلنا بأمور العسكر ورتبهم، ما إذا كانت صفة الكولونيل هي نفسها صفة الجنرال، رغم أني قرأت شيئاً من هذا في مكان ما. ما يهمّنا في الأمر أن الصفتين، الكولونيل والجنرال، حضرتا في روايتين شائقتين لغابرييل ماركيز، الأولى هي «الجنرال في متاهته»، والثانية «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، وبالمناسبة فإن ماركيز حين شرع في كتابة «الجنرال في متاهته» كان يرغب في كتابة رواية عن نهر اسمه ماغدولينا، يعرفه جيداً، وبكل ما يحيط به، قرية بقرية وشجرة بشجرة، لكنه في لحظة معينة وجد أن أفضل ذريعة للحديث عن هذا النهر وسرد حكايته هي الحديث عن السفر الأخير للجنرال سيمون بوليفار، ويعتبر ماركيز هذه الرواية الوحيدة التي يشعر إزاءها بارتياح مطلق، لأنه اشتغل على إعدادها أكثر من أي رواية أخرى، فيما يعتبر روايته «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، على الرغم من جمالها الأخاذ، من أبسط رواياته.
ما أبعد الشقّة بين الجنرال سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية من الاحتلال الإسباني، وبين الجنرالات الذين يحضرون في رواية أخرى مهمة لماركيز هي «خريف البطريرك» التي تتمحور أحداثها حول طاغية عجوز متخيّل من طغاة إحدى جمهوريات الكاريبي، نسجه الكاتب من مزيج من طغاة أمريكا اللاتينية الحقيقيين، من بينهم الديكتاتور الكولومبي غوستابو روخاس بينيا، والفنزويلي خوان بيثنتي غوميث، أما الثالث فهو الإسباني فرانسيسكو فرانكو، حيث انتقل ماركيز وعائلته إلى مدينة برشلونة الإسبانية، وعاش هناك سنوات يراقب بشكل يومي سلوك فرانكو عندما كان في السلطة التي مكث على رأسها من عام 1939 حتى عام 1975، وكان مثالاً للطغيان والقمع والاستبداد.
نأتي على اسم فرانكو لنشير إلى كتاب حمل اسم «رسالة إلى الجنرال فرانكو» كتبها الكاتب الإسباني فرناندو أربّال، وتتوفر للكتاب ترجمة عربية من وضع عمّار الأتاسي، وصدرت عن «دار ممدوح عدوان» في سوريا، وكان الكاتب من ضحايا فرانكو، حيث تمّ اعتقال والده قبل أن يختفي، ولم ينشر الكتاب في إسبانيا إلا في عام 1978، أي بعد ثلاث سنوات من رحيل فرانكو، لكنه نُشر بباريس في حياة الديكتاتور، وأراد صاحبه أن تصل الرسائل التي تضمّنها إليه.
يمكن القول، إذاً، إنه على خلاف «كولونيل» ماركيز الذي ليس لديه من يكاتبه، اختار أربّال أن يكاتب الجنرال فرانكو، في رسائل لم تتوخ الشجب والإدانة والاستنكار في معانيها المباشرة، إنما اختار أن يخاطب ضمير فرانكو، قائلاً له: «الألم يتملكك في انحرافك أيضاً. أنت ترسم حطام السفن، ولعبتك المفضلة هي قتل الأرانب والحمام وسمك التونة. كم من جثة في سجلك؟ أتخيلك محاطاً بحمام بلا أرجل. بأكاليل سوداء، بأحلام تطحن الدم والموت». الموت هو صناعة الطغاة بامتياز في كل الديار وكل العصور.
https://www.alkhaleej.ae/2023-10-28/%D9%84%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%B1%D8%A7%D9%84-%D9%85%D9%86-%D9%8A%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8%D9%87/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7