مقال الكاتب العراقي كه لاين محمد عن #ترميم_الذاكرة، في عدد اليوم من جريدة "العرب"
الكاتب البحريني حسن مدن يرمم ذاكرته وذاكرة وطنه
الذاكرة تعيد تشكيل الواقع في الكتابات
تتقاطع السيرة مع الرواية غالبا، وإن بدا الاختلاف بينهما في حقيقة الأحداث، والتصاق السيرة بالتاريخ الحقيقي خلافا لخيالية الرواية، فإن فعل التذكر الذي تعتمده السيرة يقوم على الانتقاء، إذ لا تحفظ الذاكرة كل شيء، بل هي تميل إلى تعظيم أشياء وإسقاط أخرى، وهذا ما يؤكده الكاتب البحريني حسن مدن بوعي في سيرته.
لا ينتهي الماضي بمجرد أن يتحرك الزمن، ويرمي بالأيام والسنوات خارج قطاره الذي لا يكون تباطؤه أو سرعته إلا وهما، مصدره شعور الركاب ومزاجهم بهذه الآلة التي لا تفتر رحلتها نحو المجهول. يقول فوكنر “إن الماضي لا يموت أبدا. لا ينبغي لك حتى أن تعتقد أنه قد مضى”.
ما إن يزداد الإدراك بمحدودية المهلة الزمنية حتى يبدأ المرء بالحفر في مسارب الذاكرة متوسلا من معطياتها ترميم الصورة التي تعيد الماضي متجاورا مع الحاضر. وما يتوخاه المرء من التقصي في محتويات زمنه الشخصي هو الإصغاء إلى صوت المشاعر الدفينة في طيات أيامه، وبالطبع إن الكتابة هي تعويذة تفك الشيفرة للوصول إلى منطقة قد تختلف خارطتها عن أرضية مغزية بمؤثرات جديدة.
لا شك أن العودة إلى ما هو واقع في العتمة أو قيد ما يشبه النسيان لن تكون إلا مراوغة لأنه يصعب تتويج الرحلة المضادة باستعادة كاملة لحمولات حياة مختومة بكلمة “ماضية”، لذلك يعترف الكاتب البحريني حسن مدن في مفتتح كتابه السيري “ترميم الذاكرة ما يشبه سيرة” بأن الذاكرة لا تحتفظ من بين الركام والوقائع الكثيرة إلا بالنزر اليسير، معبرا عن استغرابه من هذا المكر بصيغة السؤال، كأن هذا اللغز يؤكد أن ليس كل ما عاشه الإنسان وجربه في متناول ذاكرته وخياله وبالتالي لا توافق حركة الزمن المتموجة متطلبات فعل التذكر.
تفصيل بسيط
هناك مقتبسات روائية في طبقات نص السيرة ما يجعل المادة المجنسة بعلامة سيرية تتقاطع مع نسق الكتابة الروائية
إن العوامل التي تحمل الذاكرة على التنفس هي على الأكثر شعورية يقع عليها النظر متجلية في ظواهر الأشياء وإيحاءات الحدث، وهذا ما يتتبعه مدن في تواصله مع مكونات ذاكرته، مشيرا في ذات السياق إلى تجربة بعض الرموز الأدبية منهم غابرييل غارسيا ماركيز الذي قد ذكر من واقع خبرته الإبداعية بأن الرواية عنده تبدأ بحكاية أو حدث صغير يشكل المنطق أو البؤرة التي منها يتحرك باتجاهات السرد المختلفة.
عندما كان صاحب “قصة الموت المعلن” طفلا يلح على جده بأن يرى الثلج، ولما لم تكن جغرافية البلدان اللاتينية من البقع التي تشهد مهرجان تساقط الثلج، فقد أخذه الجد إلى مكان قوالب الثلج ليعاين بنفسه ما يتوق لرؤيته، وهذا التفصيل البسيط يكون نواة لرائعة “مئة عام من العزلة”.
ما يقوله ماركيز يلتقي مع ما كتبه رجل قد حرم من حنان الأم وهو لا يزال صغيرا في السن ولم يبعد الأم من منطقة النسيان سوى ما انطبع في ذهن الطفل من صورتها وهي كانت تسرح شعرها القاتم الطويل. إذن لا يستحضر الخيال ملامح غائبة إذا لم يصادف تفصيلا صغيرا. ويستعيد حسن مدن صورة عمارة أقام في إحدى شققها وقد طفت على سطح ذاكرته حين صادف ورأى في معرض تشكيلي لوحة تصور مبنى بعدة طوابق محاطا بأشجار البتولا الشاهقة.
نستشف مما يسرده الكاتب بأن الأمكنة التي تأخذ موقعها في مجرة الشوق والحنين لا تطابق جغرافية الواقع، الأمر الذي يحيل إلى نصيحة غراهام غرين في رواية “كوميديا الممثلين”، “عندما تحن كثيرا إلى المكان فلا تعد إليه”، وما يرشح من الكلام الإرشادي هو الخوف من التضارب بين الصورتين للمكان نفسه الأولى تحوم في الشعور والأخرى جاثمة في الواقع. ومن المفارقات العجيبة في علاقة الإنسان مع المكان أن انفصاله عن هذا البعد يولد لديه شعورا فنتازيا بتضاريسه وبالتالي تتكون صورة فردوسية في المخيلة للمكان المفتقد وتنزاح الصورة الحقيقية.
قبل أن يسرد محطات من حياته وما عاشه خارج بلده من التجارب يلمح حسن مدن إلى ما يعني له مفهوم الزمن راسما صورة توضيحية لطبيعة تواصل الفرد مع تيار الزمن الذي أشبه بنهر النيل المنبسط في مجراه على امتداد المسافة من المصب البعيد إلى الواحات البعيدة التي يسافر إليها، لا يشيخ، ولا يحزن كذلك الزمن ينهمر تاركا خطوطه على ملامح البشر التي تعلن عن مضي الوقت وتسرب العمر من بين أصابع الأيام.
يرى صاحب “للأشياء أوانها” أن الزمن رغم كل الحياد الذي يبديه فإنه لا يفلح في إخفاء مكره حين يجعلنا نحس بأننا في معظم الأحيان أننا بلا أعمار. ولا يثنينا الإحساس بالعمر عن حب الحياة بل يزيدنا معرفة بقيمتها الاستثنائية. ويشير المؤلف إلى دور الأسطورة في حياة الشعوب وإيحاءاتها المؤثرة على التكوين النفسي إذ يستهوى كل شعب إضفاء الأمجاد والبطولات إلى تاريخه والإعلاء من شأن موقعه الجغرافي، وهو بصدد هذا الموضوع يذكر ما يعتقده الشعب المكسيكي من أن مكسيكو كانت مهبطا للنسر العظيم الذي يحوم ولا يتسع له أي مكان قبل أن يكتشف البقعة التي تتحول إلى عاصمة المكسيك في مرحلة ما بعد الاستقلال.
وما إن تنتهي القصة المتضمنة في الكتاب حتى تعود الأضواء إلى موتيف السيرة وهو عودة الكاتب إلى بلده البحرين في 2001 إذ يمهد المتكلم لحيثيات الحدث بقوله “لم يحل نسر كبير على البحرين الصغيرة كذلك الذي حل على المكسيك لكن على هذه الجزر الجميلة حكايا مجيدة عن وطن نحبه صاغ شعبه أساطير جميلة عن نشأته”. ويفهم من هذا التقابل بأن الجانب الوجداني هو نواة الترابط بين الإنسان والجغرافيا.
بين المنفى والوطن
حسن مدن يعترف في مفتتح كتابه السيري "ترميم الذاكرة ما يشبه سيرة" بأن الذاكرة لا تحتفظ من بين الركام والوقائع الكثيرة إلا بالنزر اليسير
يعتمد مدن على نسق التناوب في سرده لرحلة العودة حيث يرجئ الحديث عن تفاصليها إلى أن يكمل رواية ما عاشه من المعاناة وهو معلق بين المنفى والوطن في مطار البحرين سنة 1992 ما يفتح الطريق أمام المغترب الذي كان اسمه ضمن قائمة المعارضين للنظام هو الإجراءات التي قد أعلنها الأمير وما تبعها من التغيير في المشهد البحريني. وبالطبع المنفي يتوق لرؤية مرابع الصبا والمواقع التي استمد منها الشعور بالانتماء. وما يتفاجأ به العائد إلى السهلة (قرية بحرينية) أن المسافة إلى البيت القديم صارت أقصر مما كانت عليه. وهذا يشي بأن الإحساس بالزمن والمسافات يتبدل طبقا للمراحل العمرية.
إذن ما كان يحسبه حسن مدن دروبا طويلة في الطفولة لم يعد سوى مسافة يقطعها بخطوات. يصف مدن جانبا من تضاريس قرية السهلة وما تتميز به بيئتها الطبيعية والاجتماعية وخلفيتها العقائدية ونتفا من ميثولوجيتها الشعبية. وما يلبث حتى يكشف عن السنة التي غادر فيها البحرين وذلك في المقطع الذي يستعيد فيه لحظات استقصائه لأجزاء البيت وتتداعى إلى ذهنه ذكريات القراءة وكلام أمه بأن الكتب
ستصيبه بالجنون، وهذا التعليق يعيد إلى الذاكرة ما أشار إليه هنري ميللر في كتابه “الكتب في حياتي” بأنه قد سمع جده يخبر الأم بأنها ستندم لأن الأخيرة وضعت كتبا كثيرة بين يدى طفلها. ويعترف مدن بأنه لم يتعاف من لوثة تلك الكتب علما بأن تحت الجسر قد مرت مياه كثيرة. والكتب في البيت قد يكون لها مفعول الديناميت أحيانا، لذلك يشن الشقيق الأكبر بين فينة وأخرى حملة لمصادرة عناوين مشاغبة مستعينا بأحد أبناء العمومة للتعرف على المحتويات.
اختبر أبرز الروائيين العالميين مهنة الصحافة وزادهم العمل في هذا المعترك تمكنا في نحت صياغات رشيقة وتحقيق خفة الانتقال بين الوحدات السردية، وقد راكم حسن مدن الخبرات في مجال العمل الصحفي وجرب كتابة العمود اليومي، وما يجب تسليط الضوء عليه ونحن بصدد الحديث عن الوشائج بين الصحافة والرواية هو اقتراح أحد النقاد المغاربة لمدن بأن يشرع بكتابة الرواية ربما رصد هذا الناقد تذبذبات الحس الروائي في مقالات كاتبنا.
نستشف مما يسرده الكاتب بأن الأمكنة التي تأخذ موقعها في مجرة الشوق والحنين لا تطابق جغرافية الواقع
ما يؤكد صحة اقتراحه هو الإحالات التي تتوارد في سيرة حسن مدن إلى الأعمال الروائية وتذكره بعض المواقف التي عاشها في الحياة بشخصيات روائية وأفلام سينمائية. عندما يلزمه العارض الصحي بالنوم في المستشفى والجناح الذي كان يرقد فيه قد عاد بخياله نحو أجواء قصة عنبر 6 لتشيخوف. وفي كلامه عن علاقة الإنسان بالوقت يشير إلى عبارة وردت على لسان إحدى شخصيات ميلان كونديرا الروائية مفادها بأن الوقت ليس ملكا لأحد، إنه أداة القياس.
إضافة إلى تغلغل المقتبسات الروائية في طبقات نصه السيري فإن تصميم المادة المجنسة بعلامة سيرية يتقاطع مع نسق الكتابة الروائية، ولعل هذا الأمر يكون ماثلا أكثر في العودة إلى بعض تفاصيل الأحداث التي يلمح إليها في الوحدات الأولى. كما يستضيف النص قصصا فرعية منها ما يسرده الكاتب عن بحثه مع رفاقه لشقة للإيجار في دمشق إلى أن وجد ضالته عن طريق سمسار بينما كان يدور بين الغرف فإذا به يرى مكتبة ملأى بكتب متنوعة من الفلسفة والأدب والمترجمة لأسماء عالمية.
لا تتطلب مكونات المشهد ذكاء حتى يفهم بأن صاحب المكتبة شخص مثقف واللا متوقع في الموقف هو ما يسمعه مدن من السمسار بأن مالك الشقة سجين بسبب مواقفه السياسية هنا يغادر مدن ورفاقه المكان، ربما وجدوا في الآخر السجين مرآة لواقعهم القاسي.
الأهم في هذا الإطار ما يسترجعه الكاتب لفحوى حوار بينه وبين شقيقه حين يسأل الأخير مستغربا عن وجهة الطير الذي يطير باتجاه مضاد لسربه؟ ما ينقله المؤلف عن الطير الذي يلفت نظره بذهابه خارج السرب هو بمثابة ما يصطلح عليه في النقد الروائي بقصة المرصدة تشحن النص بالتوتر الدرامي وتفتح باب التكهن بأن مصير البطل لا يختلف عن نهاية القصة المتضمنة.
فعلا هذا ما يمر به حسن مدن إذ يتنقل بين المنافي بعيدا عن أفراد أسرته. ومن بين الأماكن التي يقيم فيها بغداد، القاهرة، موسكو، بيروت، تتسرب الأخيرة إلى مسامات وجدانه إذ شهد فصلا من الحروب التي اندلعت بين الفرقاء اللبنانيين غير أن شراسة الاقتتال لم تقض على روح بيروت فوضعتها باحثة أجنبية، والكلام على عهدة صاحب السيرة، بين أكثر المدن حيوية في العالم لأن المباني المتهاوية إثر القصف قد تحولت إلى منصة لعرض تشكيلي.
https://alarab.co.uk/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D9%85%D8%AF%D9%86-%D9%8A%D8%B1%D9%85%D9%85-%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%AA%D9%87-%D9%88%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%87