ابن خلدون بين السياسي والثقافي (3)
الصداقة المقموعة والاصطدام مع السلطة
قصة علاقة ابن الخطيب بابن خلدون لابد أن تسجل لما فيها من تشابه، فهما من رجال الدولة والسياسة (ملاحقة شئون الحاضر وأخبار الساعة) ومن رجال الفكر والعلم ومعرفة التاريخ (قراءة الماضي ودراسة حوادثه). إلى ذلك تشبه مأساة ابن الخطيب وطموحاته إلى حد كبير تتابع حياة ابن خلدون وأعماله.
كان ابن خلدون ترك الأندلس في سنة 766 هجرية (1364م) على خلاف سري بينه وبين ابن الخطيب إلى أن عاود الأخير واتصل به إثر سماعه بخبر سقوط ولاية بجاية سنة 767 هجرية (1365م) ومقتل صاحبها، فخاف على صديقه وغريمه فبعث له رسالة اطمئنان غلب عليها الطابع السياسي إذ يشرح فيها أخبار الدولة في غرناطة وما أنجزته من انتصارات وفتوحات بقيادة السلطان. وصلت الرسالة متأخرة بعض الشيء بسبب صعوبة الاتصال وعدم معرفة ابن الخطيب عنوان صديقه على رغم علمه بمكان سكنه. ماذا يقول الخطاب الذي أرسل في العام 769 (1367م) إلى تلمسان «فتأخر وصوله حتى بعث به الأخ يحيى عند وفادته على السلطان» واستلمه ابن خلدون في سنة 770 هجرية (1368م).
يبدأ بالحديث عن طول «انقطاع أنبائك عني واختفاء أخبارك»، وبعد السلام والتحية والكلام عن «الضجر الذي تعلمونه» ذكر السلطان وما فعله من وصل «سبب الالتحام والاشتمال مع الاستقلال» وأخذ يسرد أخبار ما «يرجع إلى الوطن» والنجاحات التي حققتها غرناطة بسبب سياسات الالتحام والاشتمال والاستقلال.
يذكر له أن شوكة الإسلام عادت للظهور في الأندلس فتم فتح حصن اشر ومقاطعة برغة وبلدات وبذة والعارين وبيغه وحصن السهلة. وكلها انتصارات حصلت في عام واحد. وذكر له دخول بلد إطريرة في إشبيلية عنوة وتم فتح دار الملك في مدينة جيان، ثم مدينة أبدة وضواحيها. ويذكر له أن سبب انتصارات المسلمين يعود إلى خلافات ممالك الإفرنج واقتتال الإخوة وصراع إشبيلية مع قشتالة وممانعة قرطبة ونزوع بعض المسيحين إلى تأييد قشتالة ضد إشبيلية. واغتنم المسلمون «هبوب هذه الريح. وخرق الله لهم عوائد في باب الظهور والخير لم تكن تخطر في الآمال».
(التعريف، ص 507 - 508).
بعد أن ينتهي من ذكر الحوادث السياسية يأتي إلى ذكر الأخبار الثقافية وما صدر من خطابات وتصانيف وكتب جديدة منها كتاب «المحبة» من تصنيف ابن أبي حجلة «من المشارقة» ورد عليه وعارضه في كتاب «في محبة الله» وتم إرساله إلى المشرق مع كتاب آخر (تاريخ غرناطة) «وغيره من تأليفي». كذلك ألف أجزاء كتاب منه جزء «الغيرة على أهل الحيرة» وجزء آخر سماه «حمل الجمهور على السنن المشهور». كذلك يطلعه أنه بدأ باختصار كتاب «التاج» للجوهري «إلى مقدار الخمس» مع حفظ ترتيبه. ويؤكد ابن الخطيب على ضرورة بذل الجهود والمثابرة «على تعريف يصل من تلك السيادة والنبوة». وينهي رسالته بتكرار الشوق والتمني بالسعادة والتوفيق لابن خلدون ويختمها بالتوقيع وتاريخها في 769 هجرية.
انتظر ابن الخطيب جواب ابن خلدون طويلاً، ولم يكن يدري أن رسالته وصلت متأخرة، فظن أن صاحبنا استلم خطابه ويريد المزيد من الاعتذار ولم يعجبه تطويله في سرد الأخبار السياسية والثقافية وآخر ما كتبه. فأقدم على توجيه خطاب جديد بتاريخ 770 هجرية (1368م) قلل فيه ذكر الأخبار السياسية والثقافية وأطال في مدح ابن خلدون وكرر له عشرات الاعتذارات عن سوء الفهم الذي وقع بينهما والوحشة التي أصابته.
وصلت الرسالة الثانية ابن خلدون قبل الأولى لذلك وضعها في مذكراته (التعريف) في البداية فاتبع ترتيب استلام الرسائل لا تاريخ إصدارها.
الرسالة الثانية ليست في أهمية الأولى لأنها مليئة بالشجون والأشواق والحنين والذكرى الطيبة وتمني اللقاء ونسيان الجفاء وتجاوز الوحشة إلى آخر الأطناب. وتتضمن أيضاً قصيدة مدح واعتذار قطعها ابن الخطيب إلى فقرات شرح ما بينها وأوضح المزيد من الاحترام والتقدير وأعلن فيها عن ندمه لما حصل وحزنه على الفراق.
رد ابن خلدون على هذه الخطابات و«تفاديت من السجع خشية القصور عن مساجلته، فلم يكن شأوه يلحق» (التعريف، ص 510). وينشر جوابه بعد الرسالتين وفيه الاطمئنان والتطمين والشكر الجزيل والارتياح إلى استقرار دولة غرناطة و«ذهاب الهواجس» و«سكون النفرة» و«رسوخ القدم» و«هبوب ريح النصر» و«الظهور على عدو الله». وأبدى سروره إلى «استرجاع الحصون التي استنقذوها في اعتلال الدولة». وأهم ما في جوابه أنه يستغرب الانتصارات الأخيرة لأنه حسب التحليل الذي بدأ يفكر فيه يعارض الإنجازات. إذ عندما تمر الدولة في مرحلة اعتلال تفقد سيطرتها على ثغورها وقلاعها وحصونها، فكيف أمكن لدولة ظهرت عليها عوارض الشيخوخة أن تعود شابة وتبدأ بممارسة دورة من الغلبة بعد أن ضعفت شوكتها!
يحاول ابن خلدون أن يفسر السبب في رسالته الجوابية القصيرة لابن الخطيب وهي، على رغم قلة فقراتها، تكشف عن بداية وعي تاريخي أخذ يتراكم في ذهن صاحبنا قبل أن يباشر كتابة مقدمته. فهو بعد أن يشير إلى اعتلال الدولة ثم عودتها إلى سيرتها الحسنة وقيامها بصد الهجمات وفتح الحصون وتحقيق الانتصارات وإظهار الغلبة، يرد التحولات إلى عامل التاريخ لأن «خبيئة هذا الفتح في طي العصور السابقة إلى هذه المدة الكريمة، لدليل على عناية الله بتلك الذات الشريفة، حين ظهرت على يدها خوارق العادة، وما تجدد آخر الأيام من معجزات الملة». (التعريف، ص 511). فهو يرى أن تجديد عناصر القوة قائم في الاستمرارية التاريخية وإظهار الغلبة يعود إلى «خوارق العادة» و«معجزات الملة» أي أنه سعيد بما حصل «بعز الإسلام وإظهاراً لنعمة الله» لكنه يطرح علامات استفهام غير واضحة عن إمكانات الدولة ومستقبلها في فترة اعتلال صحتها وعافيتها.
يشرح ابن خلدون فكرته، التي ستتحول لاحقاً إلى نظرية متكاملة، في رسالته الجوابية لكنه لا يستبعد وجود حالات استثنائية تشذ عن قواعد التطور التاريخي مثل «خوارق العادة» و«معجزات الملة».
بعدها ينتقل إلى الحديث عن مكانه في جوار «الرياسة المرينة» وأخباره السابقة التي مرت في «تلون الدهر»، و«مظان النكبة» وصولاً إلى مهلك «السلطان المرحوم على يد ابن عمه، قريعه في الملك، وقسيمه في النسب». ويخبره عن اعتقال شقيقه ثم الإفراج عنه والعبث في المنزل واغتصاب الضياع. ثم يطلب منه إرسال ما صدر عنه من تصانيف ورسائل تتحدث عن الفتوحات الجديدة ويعلن له ندمه على ما فاته من أخبار ومعلومات.
تكشف تلك الفقرات، على رغم اقتضابها، عن بداية تأسيس لمعرفة مترابطة في تفسير التاريخ وفق قواعد المُلك والنسب والتنازع بين الأقرباء على الدولة. وهي كلها إشارات تدل على تأمله في اختلاف الأحوال وأسباب تفكك العمران وهرم الدول.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3024 - الجمعة 17 ديسمبر 2010م الموافق 11 محرم 1432هـ