السياسة الأميركية الجديدة: الإصلاح يعادل الأمن
إعلان الخارجية الأميركية عن بدء مساعد الوزيرة لشئون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان جولة في دول الخليج العربية تنتهي في 2 مارس/ آذار المقبل يبحث خلالها مع قادة المنطقة تداعيات المتغيرات التي بدأت تشهدها منذ مطلع السنة الجارية أعطى إشارة عن مخاوف أخذت تتمظهر في الانتفاضات المتتالية من تونس ومصر وليبيا والجزائر والمغرب والأردن واليمن والبحرين والعراق وإيران وغيرها من البلدان. فالجولة تتضمن مراجعة للسياسة الأميركية وإعادة هيكلة للعلاقات التقليدية التي عرفت بها واشنطن في العقود الأخيرة.
الخارجية الأميركية ذكرت في بيان لها أن فيلتمان سيبحث مع قادة قطر والكويت وعمان والإمارات والبحرين مضاعفات التطورات الأخيرة في المنطقة وضرورة التجاوب مع دعوات الإصلاح بطريقة سلمية وشفافة ولا تتعارض مع خصوصية كل بلد.
قبل أن يصل مساعد وزيرة الخارجية غادر المنطقة مبعوث وزير الدفاع رئيس هيئة الأركان المشتركة في الولايات المتحدة الأدميرال مايك مولن بعد أن بحث مع قادتها تطورات الأوضاع الأخيرة وانعكاساتها الأمنية المحتملة على منظومة الدفاع الإقليمية.
هذا التواصل على المستويين الدولي (وزارة الخارجية) والأمني (البنتاغون) يؤكد مخاوف بدأت تقلق واشنطن ودول المنطقة من احتمال انفلات الفوضى وتسربها من مكان إلى آخر كما حصل في منطقة شمال إفريقيا العربية. لذلك جاءت جولة مولن التمهيدية لتؤكد ثوابت العقيدة الأمنية وعدم تراجع إدارة باراك أوباما عن الاستراتيجية الأميركية التقليدية التي ترتكز على قاعدة حماية الآبار وشريان الطاقة الحيوي.
نظرية الأمن أولاً والدفاع عن المصالح الاقتصادية ثانياً لاتزال تشكل جوهر السياسة الأميركية في المنطقة. ولكن كما يبدو بدأت تطرأ على تكتيكات الاستراتيجية التقليدية تعديلات مهمة وهي حتى الآن غير منظورة. واهم تلك التعديلات مطالبة دول المنطقة باجراء رزمة من الاصلاحات لاحتواء مضاعفات التغيير وتداعياته المحتملة. وهذا الأمر تكلف فيلتمان بابلاغه حتى تكون المنطقة جاهزة لكل الاحتمالات. فالنصائح التي سيحملها مبعوث وزارة الخارجية تربط للمرة الأولى الاستقرار بالاصلاح ما يعني أن واشنطن بدأت تتعامل مع الأنظمة بأسلوب مغاير عن العقود السابقة.
سابقاً كانت الولايات المتحدة تربط الأمن بالاستقرار ولا تعطي أهمية للإصلاح مراعاة للخصوصيات والظروف الحساسة لكل بلد تاركة المسألة لقادة الدول في تقرير خطواتها وفقاً للاعتبارات الداخلية ومدى قدرتها على التحمل. هذا المنهج المريح كما يبدو من جولتي مولن العسكرية (البنتاغون) والسياسية (الخارجية) وصل في مرونته إلى حده الاقصى وبدأ الان يخضع للمراجعة في البيت الأبيض.
المراجعة كما هي ظاهرة في مشهد المسرح تعتمد على تعديل مهم وهو الانتقال من مرحلة ربط الأمن بالاستقرار إلى ربط الاستقرار بالاصلاح. وبكلام آخر كانت واشنطن ترى سابقاً أن الاصلاح يعادل الفوضى ويزعزع الأمن الاقليمي بينما هي الان بصدد قراءة جديدة تقوم على فكرة ضمان الأمن والاستقرار بتنفيذ خطوات اصلاحية تستطيع احتواء مضاعفات الفوضى وتمنع الاضطراب الإقليمي.
هذا التعديل في الاستراتيجية ليس جديداً فهو بدأ بهدوء في تسعينات القرن الماضي (أزمة الكويت) حين زحفت الجيوش الأميركية إلى المنطقة لاخراج قوات صدام حسين في العام 1991. شكل ذلك الحدث الكبير خطوة مهمة في سياسة خلخلة الاستقرار وبدء الكلام عن تغيير المعادلة الامنية وخريطة المنطقة وصورة الانظمة.
آنذاك كانت الخطوة ناقصة وغير حاسمة في عهد جورج بوش الاب بسبب الانتفاضات المدنية التي هزت المعسكر الشرقي وادت إلى تفكك المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفياتي. التدهور السريع في اوروبا الشرقية لعب دوره في تأخير سياسة التغيير في منطقة الشرق الأوسط، بسبب اضطرار اوروبا الغربية والولايات المتحدة التفرغ لاحتواء تلك التداعيات والمضاعفات الناجمة عن انهيار الخصم السوفياتي في إطار «الحرب الباردة».
بين 1991 و2001 عرفت المنطقة الاستقرار وشهدت فورة نفطية وهبة عمرانية وتحديثات اقتصادية – بنيوية سريعة ادت إلى تحسين موقع الدول الخليجية في تراتب النظام النقدي الدولي ما أعطى أهمية خاصة ومضافة لدورها في شبكة العلاقات التجارية. واستمرت هذه الخصوصية تلعب ضمن سياسة الأمن والاستقرار إلى أن وقعت «هجمات سبتمبر» ما أعاد فتح ملف المنطقة في عهد جورج بوش الابن.
سقوط بغداد في العام 2003 كان الخطوة الثانية في تعديل الاستراتيجية الأميركية إذ انتقلت واشنطن من سياسة التفهم والتفاهم إلى سياسة ممارسة الضغط على الأنظمة حتى تقوم بتعديلات في هيكلها بما يتناسب مع معدل التطور الذي حصل على مستوى البنى التحتية. فالضغط الذي ارتفعت حرارته بعد العام 2003 جاء مترافقاً مع المتغيرات التي طرأت على معادلة التوازن الإقليمية ومتوازياً مع رغبة في الإصلاح لتكون هياكل الأنظمة منسجمة بين بناها التحتية والفوقية.
تغطية الفجوة بين الاقتصاد والسياسة من خلال تجسير العلاقة بين تطور القاعدة المادية والبناء الفوقي (الإداري) للانظمة شكل قوة مضاعفة في مشروع المراجعة الأميركي لاستراتيجية الولايات المتحدة في منطقة تعتبر شديدة الأهمية والحساسية في الشرق الأوسط الكبير. فهذه الدائرة مهمة بوصفها حلقة مركزية في سلسلة ممتدة جغرافياً على طول خطوط الامداد النفطي لحركة النقل البحري، ولذلك كان الحرص على الإصلاح يتوافق دائماً مع نمو مخاوف من الفوضى وعدم الاستقرار والانجرار إلى نوع من الزعزعة الأمنية.
هذه الصفحة كما يبدو شارفت على الانطواء في النصف الثاني من عهد أوباما. فالإدارة بدأت معاودة الضغط باتجاهين الأول يعتمد الهاجس الأمني وتخويف دول المنطقة من الفوضى. والثاني يتطلع إلى اقناع الأنظمة بضرورة الأخذ بمبادئ الاصلاح حتى تضمن الاستقرار.
السياسة الأميركية بدأت تتغير من دون قطع مع الماضي. فالعقيدة الأمنية لم تتبدل لكونها تعرض المصالح الاستراتيجية للمخاطر في حال انهارت المنظومة الإقليمية وتزعزع كيان دول مجلس التعاون. ولكن الاستقرار حتى يستمر يتطلب اصلاحات تضمن عدم الانزلاق نحو الفوضى.
الجانب الأول من الاستراتيجية (العقيدة الأمنية) لم يتغير إذ واصلت الإدارة الأميركية سياسة توقيع الاتفاقات العسكرية وعقد صفقات بمليارات الدولارات لبيع الاسلحة. الجانب الثاني من الاستراتيجية بدأ يتعدل من خلال الانتقال من منطق الاصلاح يعادل الفوضى إلى منطق الإصلاح يساعد على الاستقرار وضمان الأمن.
بهذا المعنى يمكن أن يفهم لماذا جاء مبعوث البنتاغون (مولن) أولاً وجاء بعده مبعوث الخارجية (فيلتمان). فالأول نقل تطمينات أمنية مشروطة برفع موازنة شراء الأسلحة لتعزيز العقيدة الأمنية التقليدية والثابتة (منع الفوضى وزعزعة الاستقرار) والثاني حمل معه نصائح الاصلاح حتى تضمن المنطقة استقرارها وتمنع الفوضى من الانتقال.
الولايات المتحدة في هذا الإطار مستفيدة في الخطوتين لأنها الطرف الأقوى في المعادلة الإقليمية فهي من جانب توظف الفوضى لتوقيع عقود بيع الاسلحة لضمان الأمن، وهي من جانب تستثمر دعوى الاصلاح لتعيد توظيفها في الحرص على الاستقرار وضمان استمراره.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3095 - السبت 26 فبراير 2011م الموافق 23 ربيع الاول 1432هـ