خصائص الزمن القادم
لقد لفت نظري الاختلاف الشاسع بين ردود بعض قراء الشرق الأوسط على مقالتي السابقة "الشعب يريد اسقاط الدعم الأميركي للاستيطان" وبين ردود القرّاء الغربيّين على المقالة نفسها المنشورة بالإنكليزيّة في جريدة Gulf News. ففي الوقت الذي اتسمت بعض تلك الردود العربيّة بالإنفعاليّة المفرطة، أو انفلات مشاعر الكراهيّة، أو الإنغلاق الطائفيّ، أو المواقف المسبقة الصنع، وتأزمت في إلقاء التهم جزافاً، أثنى القرّاء الغربيّون على كشفي النقاب عن النفاق الرسميّ الغربيّ، وتعاطفوا مع كفاح الشعب الفلسطينيّ المحروم منذ أكثر من ستة عقود من الحريّة والكرامة والعدالة التي تطالب بها الجماهير العربيّة من حكامها في وثبتها اليوم، وأعتَذَرَ بعضهم عن جهل حكامهم بالوقائع على الأرض، وانحياز البعض الآخر للوبي الصهيوني الذي يضبط إيقاع المواقف الغربيّة الرسميّة من الاستبداد الرسميّ العربيّ وفق المصالح الصهيونيّة ونفوذها في الولايات المتحدة.
إنّ ما يجري في عالمنا العربيّ اليوم هو بداية تاريخ عربيّ جديد تكتبه، ولله الحمد، الملايين من جماهيرنا بمداد دمائها وكفاحها السلميّ، وليس بالدبابات الأميركيّة والانقلابات التآمريّة، وتقوم الجماهير بانتفاضاتها العفويّة المسالمة بدفن أنظمة المومياءات إلى غير رجعة إنشاءالله، فكفانا زمن الإحباط والترهّل واليأس الممتدّ منذ استيلاد الطغاة انظمة الاستبداد العربيّة، قديمها وحديثها، من نظام نيرون روما أو من نظام ستالين وأمثالهم. وقد راهنتُ، كغيري من المثقفين والكتّاب العرب، قديمنا وحديثنا، في كل ما كتبناه على أصالة قيم الحريّة والكرامة والعدالة لدى شعبنا العربيّ، وعلى حيويّة هذا الشعب، وحتميّة رفضه لأساليب الذلّ والهوان التي تفرضها أجهزة قمعيّة يُنفَق على تجهيزها بأحدث معدات القمع المستوردة، وبأكثر مما يُنفَق على التعليم والجامعات، ولذلك أرفض إيحاء البعض من كتّاب هذه الردود وكأنني لم أكتب عن أنظمة لا تمثّل تطلعات وإرادة شعوبها، وتتصرّف بمواردها ومقدراتها كأنها ملكيّة خاصّة لهؤلاء، كما نرى اليوم من تبديد الثروات العربية بالمليارات في البنوك الأجنبيّة من قِبَل الطغاة وأولادهم وزوجاتهم وأقاربهم فيما يُذلّ الشباب العربيّ بالفقر، وبمعدلات الباحثين عن العمل في بلادهم أو يموتون غرقاً في البحار البعيدة وهم يهاجرون طلباً للرزق! بالتأكيد إن الأمور في غاية التعقيد والالتباس على البعض، وإذا كنّا نريد أن نكون مساهمين في صناعة مستقبل عربيّ زاهر بالحرية والكرامة نتطلع إليه منذ قرون، ونعمل من أجله منذ عقود جيلاً بعد جيل، فلا بدّ أن نتبنّى أسلوباً حضارياً في الحوار بعيداً عن القوالب الجامدة، ولا بدّ أن يكون الحوار شفّافاً حول اولويات شعوبنا، والسبل الحقيقيّة الكفيلة بتحقيق هذه الأولويات بأقلّ الخسائر الممكنة، وبأنجع السبل المتاحة. لذلك لا يجوز خلط الغث بالسمين، ومساواة المجرم بالضحيّة، والسارق بالغانم، والمتمسّك بجذوره بالبائع لها.
لا شكّ أنّ هناك عوامل مشتركة بين أبناء الشعب العربيّ في مختلف بلدانه ولكنها لا تصل إلى حدّ التطابق، ولذلك لا بدّ من الاحتفاء بالعناصر المشتركة بين ابناء لغة الضاد اليوم، وثوراتهم الحاليّة، وانتقالها من بلد إلى آخر، والتي تؤكد على وحدة الأمّة العربيّة وقضاياها. فالكفاح من أجل حياة حرّة وعزيزة ومستقلّة من الاضطهاد الأجنبي يترجمه اليوم ملايين الشباب بالكفاح ضدّ الفساد وبمعدلات الباحثين عن العمل، والفقر والاستبداد، ولا يجب مساواة من دافع دائماً عن عروبة قضايانا، ودَفَعَ ثمناً باهظاً من أجل مواقفه بمن تلقى المكافآت والمعونات من أعداء أمته على مواقفه التي فرّطت بالحقّ العربيّ، وأعلنت اصطفافها مع أعداء الأمّة خوفاً أو طمعاً أو ضيق أفق! ومن يستطيع أن يدعي بأن الملايين الثائرة اليوم قد نست الكفاح العربيّ لتحرير شعب فلسطين في خضمّ كفاحها من أجل تحرير أنظمتها من الجمود والفساد والاستبداد. ربما الطغاة في إسرائيل وحلفاءهم الغربيون يتمنون ذلك، فدعهم في أمنياتهم يعمهون!
لا خلاف أنّ للشعوب العربيّة كافّة طموحات، وآمال، ومآخذ، وانتقادات، وتطلعات مشتركة، ومتماثلة، ومتداخلة يسعى الجميع إلى تحقيقها كلٍّ بطريقته الخاصة.. ولا شكّ أنّ هناك قنوات متنوعة تزداد عدداً واتساعاً كي يتواصل الجميع، ويتوصل إلى وحدة الرؤية حول المطالب والطموحات العاجلة وكيفيّة تحقيقها بأكفأ وأسرع الطرق والوسائل الممكنة. لا أحد يتحدث هنا عن جمهورية أفلاطون أو عن الكمال في أي شيء، فالكمال لله وحده عزّوجلّ ولكن المهم اليوم هو مشاركة الجميع في التعبير عن الرأيّ، والمساهمة في الحكم، وفي إدارة شؤون بلادهم، وتحقيق مصالح الجماهير. وهناك العديد من الطرق لفعل ذلك، وليس الحديث عنها في وسائل الإعلام هو الطريق الأوحد، وآليات العمل متاحة أو يجب أن تُتاح إن لم تكن كذلك.
كان يمكن للأنظمة البائدة ان تصلح ذاتها من داخلها وتدريجيّاً، كما حدث الاصلاح والتطور السياسي في الدول الديمقراطيّة نفسها، ولكن بعض الحكّام أخذتهم العزة بالاستبداد كما رأينا، فتعالوا على إرادة جماهيرهم، وابتعدوا عن طموحات شعوبهم، واصطنعوا لأنفسهم موقع الآلهة اليونانيّة، فكانوا أنفسهم وشعوبهم يظلمون، وبسبب تعنّت الحكام واغلاقهم منافذ الاصلاح علت أصوات الجماهير في شوارع تونس ومصر وغيرها من مدن العرب الأخرى ليصبح اليوم التظاهر الأسلوب السائد لدفع النظام السياسيّ إلى التغيير ونقله إلى القرن الواحد والعشرين، ولكن ذلك يجب أن لا يعني هدم المؤسسات، أو تدمير المنجزات، أو سفك الدماء، أو العودة للاقصاء والعزل والقمع، ولذلك نرى أنّ من يكمل عن الجماهير التونسيّة والمصريّة طريق التغيير هي الكوادر الوطنية التي تعمل في مؤسسات الدولة العسكريّة والمدنيّة فهم أيضاً لهم المصلحة، والإرادة، والرؤى نفسها على استكمال التغير المطلوب تلبية لمصلحة بلدهم وشعبهم.
نشهد اليوم إذاً البداية الحقيقيّة لانتقال العرب إلى العالم المعاصر. وكي يحترم الجميع دماء الشهداء، وعطاءات المناضلين علينا جميعاً الإقرار أنّ أساليب تبادل التخوين، والمزايدات، والانغلاق داخل أقبيّة الفتنة، النقمة، والانتقام، أو اتّباع الأسلوب الشموليّ الذي أطلقه جورج بوش الابن في التعامل السياسيّ: "من ليس معنا فهو ضدّنا" هذه أساليب غير صالحة للتعامل مع وقائع التغيير الجارية اليوم، فالجماهير الثائرة نراها تبحث عن الأرضيّة المشتركة مع إدارتها، وهي ليست في وارد سياسات وأساليب الإقصاء والتخوين والعزل والمنع، وتباشير الغدّ المزدهر تبدو من تبنّي الثوّار ثقافة الجماعة التي تستطيع أن تختلف وتتفاهم وتعمل في آن واحد على تحقيق الإنجاز الأكبر في نشر الحرية وسيادة القانون، وهي التي تتخذ من أنّ "الاختلاف من طبيعة الأمور" أسلوباً للحكم.
إننا أبناء شعب طيّب وضع نفسه دائماً في قلب العروبة التي خصّها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بموقع خير الأمم بالقيم والأخلاق والوسطيّة، وإنّ الاعتزاز بهذه العروبة وبدينها، وتاريخها، وثقافتها، وحضارتها، ولغتها، ووحدة مصير ودماء أبنائها يتعزّز اليوم. ولا أعتقد أنّ جماهير منتفضة من أجلّ الحريّة ستخلط بين مواقف مشرّفة مقاومة للاحتلال الأجنبيّ والظلم الإسرائيليّ مع مواقف حكّام أضعفوا شوكة العرب بالانقسام، وأودوا بقوة أمتهم بالتناحر، وشقّوا كلمة العرب بالاصطفاف مع العدوّ.
الحديث في القضايا الكبرى يتناولها الكتّاب في مقالاتهم وفق الأولويات التي يرونها في لحظة الكتابة، وهو لا يمكن أن يكون تهمة، فكل قضايا العرب هامّة وملحّة لا يستقيم الحقّ بدونها. إن الذين يساوون بين مقاومة للهيمنة الإسرائيليّة مع من عمل على الإجهاز على المقاومة عليهم أن يتوقفوا ويتساءلوا إلى أين هم ماضون قبل أن يستسهلّوا توزيع التهم يميناً وشمالاً بما لا علم لهم به. وإذا كانوا يعتبرون أنفسهم من دعاة الزمن القادم والمستقبل الحرّ فعليهم أن يغيّروا ما بأنفسهم أولاً، وأن ينظروا إلى ما يحدث ويعوا ما يرون وينظرون، وأن يسمعوا صوت الجماهير ويدركوا ما يسمعون، وأن لا يستسهلوا إعطاء أنفسهم الحقّ بالطغيان على الآخر، أو الاستبداد بالرأي، أو بإطلاق الأحكام المسبقة الصنع على من يدافع عن أيّ من قضايا أمته، فالزمن القادم هو زمن ديمقراطي ترفرف عليه رايات الحريّة والكرامة للجميع، ولكننا سوف لن ننسى أن لنا شعباً يرزح تحت الاحتلال الأجنبيّ في فلسطين، وأنّ داعميّ الاحتلال والاستيطان والقمع الإسرائيليّ هم أنظمة "ديمقراطيّة" غربيّة ستظلّ متوجسّة من الديمقراطيّة العربيّة وستحاول بكل جهودها حرفها عن دعم الكفاح الفلسطينيّ من أجل الحريّة والديمقراطيّة والاستقلال.
د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
_________________
نحن انصار حر كة جعفر الخابوري الثقافيه