نهاية الديكتاتور
هرب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من قصوره إلى منفاه الاختياري. وتخلى الرئيس المصري هاربا هو الآخر. كلاهما تخليا عن كراسيهما التي جلسا عليها عقودا متتالية دون فهم إرادة شعبيهما ولا خياراتهما وتركاهما ينتظران اللحظة التاريخية لهما، وكشفت الوقائع أحوالا لا تسر أيا منهما كما ادعيا في خطاباتهما الأخيرة ردا على الغضب الشعبي في بلديهما. كلاهما ادعيا كثيرا بما لا مصداقية له، بل كشف دورهما الفعلي فيما أصبح إثباتا عليهما ودليلا أتهاميا عليهما. أعلن الرئيسان بلسانهما أنهما قضيا كل عمرهما في خدمة الشعب والوطن ولم "ينتويا" البقاء في الحكم إلى الأبد ولم يفكرا بالتوريث ولم يتحدثا عن الاستبداد والفساد والنهب والطوارئ وقمع الحريات والانتهاكات المدوية التي وثقتها منظماتهما قبل المنظمات الدولية المعروفة. وتشابه هذان الرئيسان بما أعطياه نموذجا للديكتاتور العربي في حكمهما وفي معنى الديكتاتور. وختما حياتهما في تقبل ما وصلا إليه مؤكدين على المصير الذي لم يستوعباها من سابقيهما، من جيرانهما أو البعيدين عنهما، مما أكد لهما ولغيرهما طبعا النهايات المحتومة للدكتاتورية، نظاما وافرادا، فكرا ورغبات.. متصورين ان ارتباطاتهما بالقوى الأجنبية وخدمة مشاريعها ضامنة لهما. وكأن مصير شاه إيران وإضرابه بعيدة عنهما.
ما حصل في تونس ومصر خصوصا، من نجاحات في التغيير الثوري وإنجازات تسجل صفحات جديدة في التاريخ العربي مثال جديد ونموذج يتطلب الاستفادة من دروسه والتعلم من مسيرته، لا سيما في نهاية الديكتاتور، والحذر من مخططات الانقضاض عليه وعرقلته، وحتى لو تمكنت الثورة المضادة فإنها إلى حين، لأن الشعوب عرفت طريقها إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحقوق المشروعة، ولم تعد قوى الردة قادرة على لجم إرادة الشعوب.
دخل الرئيس التونسي الهارب من بلاده المستشفى في المدينة التي لجأ إليها وأصيب بغيبوبة ونقل عن شتائم لزوجته إليه قبل صعوده معها طائرة الهزيمة.. كما ذكر عن بكاء الرئيس المصري حين وصله قرار سجنه بعد استجوابه، وأحيل بعدها إلى المستشفى أيضا، وكان قد سرب عن حاله مثل زميله التونسي. وأيا كانت الحالة فإنها لا تغير من حقيقة ما قاما به ومارساه طيلة تلك السنوات العجاف في حكمهما وما فعلاه بإرادتهما وبرغبتهما وبخياراتهما وهما يتحملان مسؤولياتهما كما يتحملان ما آل إليه مصيرهما الآن.
القضاء العادل هو السبيل إلى محاكمة الديكتاتور وكشف كل عهده على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ونشر كل الممارسات والانتهاكات والارتكابات التي تمت بعهدهما ضد الشعب، والقضايا الوطنية والقومية أساسا والإنسانية أيضا. والإسراع في تقديم الديكتاتور إلى المحكمة مطلب شعبي، يتواصل مع محاكمة عهده، بدءا من دور عائلته في الإفساد والفساد والاستبداد إلى عصاباته ومافياته واتفاقياته وصفقاته. وفي هذه المحاكمة تتكشف صورة التغيير والثورة الشعبية الجديدة.
الرئيسان التونسي والمصري نموذجان صريحان لحكم الدكتاتورية ولسلطة الاستبداد والفساد في العالم العربي. وقد تعرت صفاتهما أمام الجميع، ولم يعد لهما من أغطية أو قدرات تتستر عليهما، أو يختفيان وراءها.
نبهت الثورتان التونسية والمصرية إلى الأخطار الكثيرة التي تحيق بالوطن والشعب والهدر في خبرات وإمكانات وقدرات الشعوب. وكذلك شحذ الوعي والعمل بجد وإخلاص للتغيير والاستجابة الصادقة لطموحات الشعوب وإرادتها في الحكم الرشيد والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية والمساواة والمواطنة المحترمة لكرامتها وإنسانيتها. والتشابه الذي تكرر في تجربتي الثورتين ومصير الرئيسين ونموذجهما يحث على التأمل في غيرهما من التجارب المشتعلة الآن ويعطي دروسا وعبرة لم يعتبر. فالحقائق لا يمكن إخفاؤها بغربال العنف والعسف والقمع والإرهاب وتلوين الإطارات.
في مصر تقاربت نهاية الديكتاتور مع نظيره التونسي، وسبقته في الإجراءات التي تشرح نهايته التي لا مفر منها. وهي نهاية كل ديكتاتور، والنماذج الكثيرة المعروفة لهذه النهاية تتكرر بخصوصيات متفاوتة ولكنها متقاربة في الشكل والمحتوى. إنها نهاية محكومة بالقانون الذي وضعه الديكتاتور نفسه أو وقع عليه ولم يتمعن فيه لمصيره.
نقلت صحيفة الأهرام عن رئيس محكمة استئناف القاهرة وقاضي الجنايات المستشار زكريا شلش قوله إن مبارك قد يحكم عليه بالإعدام شنقا إذا ما أدين بالتهم التي يتم التحقيق معه فيها. وأضاف "أن ما صدر عن وزير الداخلية السابق حبيب العادلي أثناء التحقيق معه بأن الرئيس السابق مبارك أعطاه تعليمات بضرب المتظاهرين واستعمال العنف معهم، فإن مبارك يعتبر شريكا بالتحريض والمساعدة في قتل وإصابة المتظاهرين باعتبار انه كان رئيس المجلس الأعلى للشرطة". ولفت إلى ان "ما يسري على مبارك في المحاكمة سوف يسري على نجليه وزوجته في المال العام". وردا على سؤال عن قضايا المال العام إذا ما ثبتت التهم الموجهة لمبارك قال المستشار "إذا ما ثبت بعد الكشف عن سرية الحسابات ان هناك تهريبا لمليارات الدولارات في الخارج... فهذه القضايا هي اختلاس للمال العام وتصل عقوبتها إلى السجن المؤبد وأقلها السجن المشدد من ثلاث سنوات إلى 15 سنة".
لقد أساء هذان الديكتاتوران للقسم الذي أدياه، ولطبيعة الحكم السياسي، ومكّنا الأعداء برغبة منهما أو بتواطئهما من التغلغل في القضايا والمجتمعات ورسم القرارات الإستراتيجية العربية وتعميم مخططاتهم العدوانية في أرجاء الوطن العربي واحتلال العراق بعد فلسطين والقائمة مفتوحة أمامهم قبل نجاح الثورات الشعبية العربية وما زالت الأخطار قائمة. كما شوّها خيارات الشعوب ومنحا بسياساتهما التي فضحت الآن ما تفننا به في الاستهانة بكرامة الشعوب وثرواتها وطاقاتها وآمالها المشروعة.
نهاية الديكتاتور شهادة أخرى للثورات الشعبية الجديدة ودرس تاريخي.
كاظم الموسوي
كاتب صحفي عربي ـ لندن