عبير السكافي .... ليست نائمة!
الجمعة أبريل 22 2011 - عيسى قراقع
ربما هذا الطبيب يكذب، هي ليست نائمة ، هي صامتة هنا وهناك، وأبعد من كلام لم يدخل سجنا،، وأقرب من مؤلف لم يستطع أن يجمع البداية والنهاية تحت نخلة سجن عسقلان.
هي ليست نائمة، ربما تجلس معنا الآن قرب جدها أبو العبد، تلعب بضفيرتها، تربي بلابلها كما تربي أحلامها، ترفع صورة أبيها لامعة مشعة وتبتسم له، ويبتسم لها، عيناها المفتوحتان تهزّ في أيادينا الفراشات، كأني اسمع هذا الصوت يضحك كالملائكة الصغار.
وربما هذا الطبيب لا يعرف العلاقة بين الطفلة عبير والسماء، وجهها يحك الصدى، تتنفس مما بقي في جسدها من رمل وتمشي على الماء، ترفع عن فمها برابيج الأوكسجين ، وتنظر إلينا وتقول أنها كانت على النبع تملأ جرتها بحليب السحاب، وأنها عادت من زيارة أبيها في السجن مشبعة بأسئلة الليل وبدم في الكلام.
وربما هذا الطبيب لم يسمع ما قالته عبير على الشبك في زيارتها الأخيرة: أبتي اتركني كي أعيش غدك الآن ، سأحلم ببطء وأعد السنين ببطء، ومهما حلمت ستدرك يا أبي كم احبك، ولكني أخاف أن يرى حلمي حلما غيره في نهاية هذا الغناء.
أبي قل للسجان أن يبتعد كي أقرأ عليك آخر دروسي وأنا شيدي، وأريك النجمة الذهبية في دفتر العلامات، وما كتبته المعلمة على جبيني بأن أحلامنا تصحو، وأنه لا بد من قمح ليكون الريش حرا، ولا بد لروحي من سماء ليراها المطلق في زفة الحمام.
أبي تعال وشار كني في رحلتي البيضاء الى هذا الضباب، وتعال كي أمشي معك وأستعيد على الأرض خطاي، تعال اتكئ عليك فقد لا أستطيع زيارتك يوم الخميس ولا تتركني ليوم الجمعة فراغا وجسدا ، فقد لا أجد من حولي أحدا سواي.
أبي عانقني بلا شبك ولا لوح زجاج، أخرجني من غرفة المشفى وفك وجعي، ومشطني وأدخلني الى سجن اسمك لأرى نافذة وحدائق في الغياب ، اسمعني صوتك فالحياة تموت كالكلمات.
عبير يا طفلة هذا الربيع، يا سكون الحاضرين، المولودة من حبق وعسل وذكريات، الموؤودة في صمتنا المسيج ظلاما على كل الجهات، تنفسي ثم تنفسي ، أيتها المهجورة من اللعب والأغاني وصباح المدارس ، واكبري وضعي قصائدي في جرارك، خذيني الى كرمك واجمعيني بالتراب والنحل واللوز لأولد من ناري ونارك.
عبير يا طفلة هذا النهار، تمهلي قليلا، ستحدث أشياء أخرى، سيكذب الخيال على الواقع، ستكذب الطائرة على الدمار، سيكذب الموت على السكين، سيكذب الليل على قمر السجين، وسيرتفع الغيم أحمر فوق صفوف النخيل، سيرحل هذا الجفاف فلا تفكري يوما بالرحيل.
فيا رب، يا فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، ارفع الليل قليلا عن طفلتنا عبير، وأعطها النور والهواء والضوء والصوت والغماما.
يا رب يا فاطر السماوات والأرض، أعطها وقتا لترى ما حرمت منه، وأعطها حبا وفجرا آخر وشمسا وسلاما.
ويا رب، نحن من سعينا بين التين والزيتون وطور سنين بأعمارنا وأرواحنا، واشتبكنا مع السجان جوعا وملحا وبردا وظلاما.
ونحن الوحيدين في الكون نموت لنحيا، ونحيا لنموت، ونترك شهداءنا على بوابات القيامة خبزا للحالمين بعدنا، العابرين الى مصائرهم عاما وراء عام.
يا رب، يا رب العروش، لقد تركنا على الحديد أعمارنا، وذابت أجساد أبنائنا وبناتنا، فلا موت صريح في المؤبد، ولا وردة في البعيد ليشتعل الجمر ويتسع القبر في المدى.
لا نحن في الدنيا، ولا نحن في الآخرة، ولا نريد يا إله أن يموت أبطالنا خارج القدس والصلاة أو قرب الحياة سدى.
ولا نريد يا إله سوى أن يرى يوسف ابنته عبير ترتدي شجرا، وتراه حيا حرا سالما عائدا غدا.
يا رب، رب السماوات والأرض، الواحد القهار، خفف قهرنا، ولا تجعل القاتل يرقص فخرا على دم القتيل، ولا تجعل الجلاد يشدّ الظلام أكثر لأن السماء ستمطر بعد قليل.
يا رب، الجبال على حالها، والحقول على حالها، والسهول على حالها، ولكننا لا نستطيع الخروج ولا الدخول، الممرات مغلقة ، السماء رمادية الوجه ضيّقة ، ويد الفجر ترفعها جندية مارقة.
فاحمنا يا رب بما نملك من إرادات وآيات وشهداء وأسرى وبراهين، احمنا لنحمي مكانك المقدس من مستوطنات ومستوطنين، ومن دبابة تنقل المكان الى جهة خاطفة.
يا رب، نحفظ أسماءك الحسنى، ونحفظ أسماء طيورنا وأشجارنا وزهورنا وسنابلنا ، ونحفظ أسماء أسرانا من النقب حتى الجليل، ونحن الدليل على الأسانيد وعلى صحة الأبدية.
ونحن عين اليقين بين الأرض والإسراء والمعراج والأنبياء وتقلب الفصول ولا نتصالح يا رب إلا مع الحرية.
فيا رب: أغثنا أغثنا أغثنا ...... يا رب انصرنا، واشف الملاك عبير.