النساء في كربلاء
لقد انتهت المعركة العسكرية في كربلاء ظهيرة العاشر من المحرّم، لتبدأ المعركة الإعلامية المفتوحة على الطغيان على مرّ العصور.
المعركة الإعلامية بعد كربلاء أدارتها بضع نساء أرامل ثاكلات، فقدن الزوج والأخ والولد، ولم تُقعِدهن فداحة المصاب عن حمل مشاعل الثورة لمواصلة ما بدأه الرجال. فكيف كانت ستكون كربلاء من دون النساء؟
لم يكن اصطحاب النساء - والأطفال - إلى العراق قراراً عبثياً، ولم يكن الإمام الشهيد (ع) يجهل ما انطوت عليه نفسية الأمويين من غلٍّ ورغبةٍ جامحةٍ في التشفي والانتقام، فهل كان يأمنهم على نسائه وأطفاله بعد مصرعه؟ أم كان يمضي لأمرٍ كان يدركه ويراه رأي عين؟
كان عارفاً بأهل زمانه ومواقف القبائل وولاءاتها، حذّره ابن عمه عبدالله بن عباس ناصحاً بعدم الخروج، وإن لم يفعل فليترك نسوته وأطفاله، ولكنه كان يخطّط لأمر بعيد. كان خارجاً لفتحٍ عظيم، ومن تخلّف عنه فقد تخلّف عن الفتح.
كان معاصروه ينظرون تحت أقدامهم، وكان (ع) ينظر إلى ما وراء الأفق البعيد، ويفكر بإنقاذ الرسالة التي باتت في مهب الريح، واصطحب معه النساء ليكونن شهوداً على فداحة البغي والطغيان. فماذا كان سيبقى من كربلاء لولا حضور النساء؟
جماعةٌٌ صغيرةٌ من الخوارج في حدود الخمسين رجلاً، خرجت على خليفة المسلمين انقلاباً على الشرعية، وحوصروا وقتلوا وانتهت القصة، وفي اليوم التالي سيقف الشعراء والمتملقون على باب الخليفة يهنئونه بالنصر على أعداء الله والدين. وسيكون الشاهد الوحيد على الجريمة الجيش الأموي الذي تولى ارتكاب المجزرة، وسيتولى قادته تسويق الرواية كما يريدون. أما بقية الجند الذين باشروا القتل فسيعودون إلى منازلهم وكأن شيئاً لم يكن، ومن سيصحو ضميره بعد حينٍ فسيتوارى خجلاً عن الأنظار.
حضور المرأة في كربلاء هو الذي قلب المعادلة. كانوا يريدون حصارهم في أرضٍ قفرٍ، والإجهاز عليهم في ضربةٍ خاطفة. حضور النساء هو الذي قدّم الرواية الأخرى وفرضها على التاريخ، رغم كثافة ما تطرحه أقلام بني أمية وحاشيتهم. حضور المرأة فضح الطاغية وأبطل كل دعاوى جهازه الإعلامي ومشايخه ومفتيه. ففي كربلاء، خرجت المرأة من تحت رماد الخيام المحترقة لتروي للعالم تفاصيل ما حدث، ولعبت دور الإعلام الثوري المضاد لإعلام الخليفة المستبد.
لقد انتهت معركة السيوف ظهيرة يوم العاشر، لتبدأ معركة العقول وإثارة الضمائر الميتة، ففي اليوم التالي سيقت النسوة إلى قصر الإمارة، ووقفت زينب في مجلس الوالي ابن زياد الذي أسكره النصر الدموي، تزأر في وجهه كاللبؤة وترد عليه شماتته: «ثكلتك أمك يابن مرجانة... إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا».
وفي الشام تخاطب يزيد في قصره وبين جنده: «إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك... وهل رأيك إلا فند وجمعك إلا بدد وأيامك إلا عدد... يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين». وعندما تعود إلى المدينة تنشر تفاصيل الجريمة. وتنتقل بعد أشهرٍ إلى مصر لتواصل المشوار.
لم تكن زينب وحدها. كانت معها ثلةٌ من النساء، بعضهن شاعرات تركن أبياتاً في رثاء الشهداء، وكان الشعر من وسائل الثورة. وكان هناك أطفالٌ في القافلة، عاشوا طويلاً بعد كربلاء، وظلوا ينشرون حقائق الثورة في عملية إحياءٍ للضمير العام عبر جيلين أو ثلاثة أجيال، وهي الفترة التي استغرقها انهيار الدولة الأموية
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3378 - الأربعاء 07 ديسمبر 2011م الموافق 12 محرم 1433هـ