مطارحات ثقافية في ندوة «أدب الطف»
قاسم حسين ... كاتب بحريني
Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com
تصغير الخطتكبير الخط
اختارت الجهة المنظمة مساء يوم الأربعاء 12/12/2012، لاستضافة ندوة ثقافية خاصة حول «أدب الطف»، لتسد فراغاً كبيراً ومزمناً في الساحة الثقافية الدينية. وكنت منذ سنوات أراقب هذه الدائرة وأتساءل: أما آن لهذه الحوزة الغنية أن تأخذ حقها من التغطية والاهتمام؟ الندوة قدّم لها الشاعر المعروف مجتبى التتان، وشارك فيها اثنان من الكوادر الشبابية الطموحة، المهتمة بهذا الميدان الثقافي العريق، وما يزخر به من شعرٍ وأدبٍ ومسرحٍ وفنٍ، تأبّى النقد الحديث أن يغطّيَه في دراساته وأبحاثه في العقود الأخيرة، ولذلك تبرز هذه المحاولات النقدية كمساهماتٍ أوليةٍ وضروريةٍ على طريق البحث والتأصيل والنقد. كما يمكن أن تصنّف مثل هذه الكتابات ضمن الأدب الشعبي، الذي تخصص له أقسام خاصة في البلدان الأخرى، بينما هو غائبٌ تماماً أو مغيّب في بلادنا، على رغم أن جذوره تضرب عميقاً في التربة.
هذه المهمة، وبحسب حدود معرفتي ومتابعتي، تتولاها اليوم مجموعةٌ مغمورةٌ من المهتمين، أكثرهم من مدرّسي اللغة العربية، ممن يمتلكون خلفية أكاديمية جيدة، ويعيشون وسط المجتمع ويتشربون همومه الثقافية ويكتبون عنها، ومن هؤلاء علي مرهون وحبيب آل حيدر.
مرهون تناول القصيدة التي تُكتب للإنشاد في مواكب العزاء الجماهيرية، أو الإصدارات السمعية والمرئية، تمييزاً لها عن القصيدة المنبرية، بما تتطلبه من مسئولية لجعلها ذات كلمة رصينة وبليغة وهادفة، حيث تمثل امتداداً للشعر العربي الذي تحلّق حول ثورة الإمام الحسين (ع). كما يفرض ذلك مسئولية كبرى على الفضائيات الدينية التي تخصصت في تقديم هذا اللون من البرامج، وما يتطلبه ذلك من مراجعة للنصوص والأداء، لتقديمها بلغةٍ معاصرةٍ تليق بجلال هذا الحدث التاريخي الكبير.
مرهون يتناول التاريخ باعتباره مرجعاً تكوينياً لهذه القصيدة، فيما تمتد إلى الحاضر المتحرك والمستقبل، بما فيها من فكرة «الانتظار». ومع أن الشاعر إنسان مثقّف، إلا أن كثيراً من شعراء الميدان لا يبذلون جهداً مناسباً في الاطلاع التاريخي، فيجتزئونه بالوقوف على بعض أحداثه، أو يعيدون إنتاجه بشكل رمزي. وبالمقابل انفتحت على مختلف قضايا العصر، دينية أو اجتماعية، أو سياسية وفكرية، وجعلت من الأشخاص رموزاً للنبلاء، فالعبّاس يمثّل الوفاء والإيثار، وحبيب الأسدي يمثل الصحبة المخلصة، والحرّ يمثل انتصار الإرادة، وجون مولى أبي ذر الغفاري (رض) يمثّل الحرية، فيما تنزع القصيدة الحسينية إلى الإنسانية بعمق، متلبسةً مأساوية الصراع.
وانتقد مرهون ضعف الكثير من القصائد الجديدة فنياً بسبب الكتابة السريعة المتعجلة، والإنتاج «الغزير» إلى درجة الاستهلاك من دون وجود ثقافة عميقة تسنده بما يقتل روح الإبداع والابتكار. كما أنه «ليس وظيفة الشاعر سرد المشهد الحسيني كما يفعل الخطيب وإنما إعادة إنتاج المشهد بشكل إبداعي من خلال تقنيات المخيلة التصويرية كما فعل الشاعر الدمستاني في قصيدته الخالدة».
ويشير الناقد إلى ما تتسم به لغة القصيدة من إيقاع موسيقي، يتنقل بين المأساة والفجيعة، وبين القوة والحماسة، كما تشتمل على «العناصر البنائية للعمل المسرحي، من حادثة وشخوص وفكرة وزمان ومكان وحوار وصراع وعقدة وحل». ويشير إلى أنك حين تستمع إلى بعض هذه القصائد، تشعر أنك تعيش تفاصيل تلك الملحمة التاريخية بشكل حي.
الناقد الآخر حبيب آل حيدر، الذي تناول موضوع «شعر المنبر والوجدان الشعبي» متخذاً نموذجاً من الملا عطية الجمري، الخطيب الشهير على مستوى البحرين والخليج العربي ودول الجوار، صاحب ديوان «الجمرات الودية» (طُبع في 4 أجزاء وجُمع في مجلد من 754 صفحة). وقصائده يكرّرها الخطباء كل عام ويحفظها الكثيرون عن ظهر قلب، إلى جانب قصائد مدرّسه الملا علي بن فايز الإحسائي. وتساءل آل حيدر عن سر ذيوع شعر الجمري واستقراره في قلوب الناس، ليخلص إلى القول إنها ظاهرة اجتماعية أدبية، باعتبار الرجل علَماً بارزاً في مجال الخطابة، ما مكّنه من طرح شعره في المناسبات على المنبر، الذي تحوّل إلى «ورشة عمل تجريبية ميدانية، يختبر فيها ما يستجوده من أشعار، فيبقي ما يروقه ويروق مستمعيه، ويحذف منها ما لا يروق».
هذه الخاصية – بحسب الناقد - لم تتوافر إلى «الشعراء غير الخطباء»، إذ يبقى شعرهم حبيس قلوبهم، وقليل منهم من يتعدى ذلك إلى النشر. أما الخطيب الملا عطية الجمري فقد أخلص لموهبته، ومنح نفسه لشعره فأجاد. كما أنه قدم أطواراً (ألحاناً) مختلفة تناسب الظرف النفسي لكل حدث، كالأرجاز للحرب، وأخرى للندبة والرثاء، بما جعله مدرسةًً مميزةً بين الخطباء.
ويرجع الناقد ما يمتلكه الجمري من سلطان على القصيدة المنبرية، سهولة تراكيب قصيدته وتلقائية لغتها وتداولية معجمها على المستوى الشعبي، بما يجعلها سائغة لكل أذن وسهلة على كل لسان. ويثير قضيةً جديرةً بالبحث حين يتساءل: هل تحكم غرض الإبكاء والنعي في الصورة التي يقدمها الجمري لأهل البيت؟ وهل تم صنع صورة مأساوية باكية بعيدة عن الغرض الأساسي للحركة الحسينية الرافضة للظلم، فاستمكنت صورة البكاء على صورة الرفض؟ وهي قضيةٌ يتركها الناقد للمراجعة ومزيد من البحث والفحص.
الجمهور الحاضر كان محدوداً، لطبيعة هذه الندوات الفكرية أولاً، حيث تقتصر على المهتمين، حيث يتجلى ذلك في كثرة وعمق المداخلات. والسبب الآخر ضعف الإعلام، فالرسالة لم تصل للكثير من المعنيين، وفي مقدمتهم الشعراء والمنشدون (الرواديد).
هذه الندوة النوعية، لعلها تكون مستهلاً لزيادة الاهتمام بهذا التراث التاريخي المغيّب والمُبعَد عن المشهد الثقافي، فشخصٌ مثل الملا عطية لا يذكر في الداخل، بينما هو في تقديري، من أكثر الشخصيات تأثيراً فكرياً على الوجدان الشعبي العام، ومن غير الأمانة العلمية إسقاطه من جردة الحساب الأدبي.
هذه المطارحات... أختمها بما أسررت به للناقد الزميل آل حيدر: بأن شعر الجمري ( ت 1981) الذي يتكلّم عن التاريخ ويصف لك حوادث كربلاء كمن عاش فيها وتقمّص شخوصها، كان يعبّر بصدقٍ عن أفكار ومشاعر وأحاسيس شعبٍ كان يعيش بوجدانه خارج الزمن... بعيداً في أعماق التاريخ.
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3758 - الجمعة 21 ديسمبر 2012م الموافق 07 صفر 1434هـ