شهداء بني هاشم يوم الطف
أما أشهر شهداء بني هاشم الذين برزوا في يوم كربلاء فهم ثمانية عشر شهيدا حسب الرواية المنصوصة عن الإمام الرضا(ع) حيث قال لابن شبيب:
(يابن شبيب إن كنت باكيا فابكي الحسين فإنه ذبح كما يذبح الكبش ، وقتل معه ثمانية عشر من أهل بيته مالهم على وجه الأرض شبيه).
وقد لمعت مآثر شهداء بني هاشم وشجاعتهم وأشاد ت الروايات بمواقفهم البطولية وكانت تعقد لهم في كل عام في شهر محرم أيام مخصصة لهم تخلد الشيعة فيها مصائبهم حسب السيرة المتبعة في المجالس العزائية التي يقيموها في مختلف بلدان العالم فييقيموا الحداد على مصابهم ثلاثة عشر يوما.
وكان من أكثرهم قوة على التأثير العاطفي في الناس البطل الشهيد الهاشمي علي الأكبر وأخوه عبدالله الرضيع والقاسم بن الحسن وقمر بني هاشم العباس وإخوته ومصرع مسلم بن عقيل في الكوفة ومصارع آل عقيل وآل أبي طالب ..
الشهيد علي بن الحسين الأكبر(ع)
أول شهيد من بني هاشم في واقعة الطف يوم عاشوراء هو علي الأكبر(ع) ماذا كانت مآثر وسيرة هذا البطل الهاشمي؟
لقد انحدر علي الأكبر (عليه السلام)، من أعلى تلك الشجرة، من فوق شموخها الأشم، كواحدٍ من أرقى شباب هذه الأمة في الإصطفاء واذخره لنصرة الحق في يوم عاشوراء
ولا مراء فيما تلعبه الوراثة من دور فعال في تكوين الشخصية، فضلاً عما يلعبه البيت بتربوياته السليمة السامية من أدوار في البناء الشخصي، حتى يتجلى كل من معالم الوراثة ومعالم التربية على شخصيته في سيرته من خلال نشاطاته وفعالياته الرسالية، وهذا ما جعل الشاعر يصفه بهذه الصفات الغر االتي هي تراثه ومن نبيل صفاته:
جمع الصفات الغـر وهـي تراثـه مــن كـل غطـريف وشهــم أصيد
في بأس حمزة في شجاعة حيدر بإبى الحسين وفي مهابة أحمــد
وتراه فـي خلـق وطـيب خلائـــق وبلـيـــغ نطــق كالنبــي محـمــد
إن علي بن الحسين الأكبر(ع) جمع كل صفات الجمال والكمال الخلقي والأخلاقي وقد ورثها من جده النبي(ص) لذلك كان أبوه الحسين عليه السلام يحبه حبا لايوصف لجماله وعذوبة منطقه وشجاعته والأكثر من ذلك له شبه في جده النبي محمد(ص) لذلك لما برزالأكبر(ع) لمقاتلة الأعداء ودخل المعركة قال سيد الشهداء مقولته المأثورة فيه ( اللهم اشهد على هؤلاء القوم فلقد برز إليهم غلام أشبه الخلق برسولك وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إلى وجهه)
ومن الملاحظ أيضا أن شخصية هذا الشباب الهاشمي تميزت "بالصلابة والبأس الشديد والتوكل على الله والثقة بالنفس" .
الرواية تقول مرّ الركب الحسيني أثناء الهجرة للعراق بعدة مناطق في الطريق، كمنطقة الصفاح، وزرود والخزيمية. ومنطقة الثعلبية ... الخ.
وهنا في هذه المنطقة بالذات حيث بلغها الركب في المساء، وعليّ الأكبر يسير معهم ليلاً نهاراً، يسير كلما ساروا ويقف كلما وقفوا، ويحث جواده كلما حثوا الجياد.. حتى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب، وفي ذلك المساء بتلك المنطقة غفا الإمام الحسين، وأخذه الكرى، فرأى في نومه المؤقت رؤيا أزالت عنه الكرى، وفتح عينيه على أثرها، وأخذ يسترجع (إنا لله وإنا إليه راجعون) وهي عبارة عن تعقيب على مضمون الرؤيا ومعناها.
فانتبه نجله علي الأكبر الذي كان يسير على مقربة منه فالتفت حالما سمعه ليستفسر من والده العظيم عما دعاه للإسترجاع، فأجابه الأب القائد:
(رأيت فارساً وقف عليّ، وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة فعلمت أن أنفسنا قد نعيت إلينا) وفي رواية لا توجد عبارة (.. إلى الجنّة). (1)
فبادر ولده علي الأكبر قائلاً بصرامة المؤمن القوي: (يا أبة أفلسنا على الحق؟) قال إمام الحق: (بلى يابني، والذي إليه مرجع العباد).
فرد علي بكلمة نابعة من العزة والإباء (يا أبة إذن لا نبالي بالموت) وفي الأعيان أنه قال: ( فاننا إذن لا نبالي أن نموت محقين)
ومن مآثر الشهيد الشباب علي الأكبر(ع) "الشجاعة العلوية النادرة" التي ورثها من جد ه أمير المؤمنين علي بن أبي طاب (عليه السلام)
علي بالطـفوف اقام حـــربا كحــربك يا علي مــع اليهود
وصــير كـربلا بـدرا وأحـدا ونادى يا حروب الجد عودي
لقد كان قلب الشباب كصادية الحديد من شدة الظمأ وهويقاتل أعداء الله قتال المستميت فهو ظمآن إلى درجة تفقده الرؤية الجيدة، فلا يرى الأوباش ولا يميز الأشياء..
ماهي إلا لحيظات وقد عاد من المعركة وهو يحمل رأس أحد فرسان بني أمية المدعو، بكر بن غانم، الذي تحدى علياً وصمم على قتله بقوله ((لأثكلن أباه))، لكن علي الأكبر تلقاه فبارزه حتى صرعه وأرداه وحمل رأسه وهو يحس بالجهد الشديد الوطأة فوصل المخيم الحسيني وقد رمى بالرأس، وهو يردد:
صيد الملوك أرانب وثعالب وإذا برزت فصيدي الأبطال
هذا ما جاء في رواية .. بينما أجمعت الروايات حول عودته المؤقتة، على جفاف حشاشته، ويبوس فمه، وذبول شفتيه، حتى بلغ لسانه إلى أقصى حد الذبول لكثرة الظمأ الذي ناله..
فهل كان متيقناً، أو معتقداً حصوله على جرعة ما ء يطفي بها لهيب العطش؟ فنحن نقرأ له هذه العبارة وقد طلب من أبيه شربة من الماء وقال: ( يا أبه: العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل، أتقوى بها على الأعداء) فاغرورقت عينا أبيه الحسين عليه السلام بالدموع.(2)
وهذا الحد الأدنى من أمل الإرتواء النسبي لم يتحقق، ولذا دمعت عينا أبيه الحسين، ولا أدري كيف دمعت وسالت الدموع حينما أجاب الأب العطشان ولده بقوله : (واغوثاه.. ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسِه شربة لا تظمأ بعدها أبداً). وفي رواية أنه أجابه بقوله:
(يا بني قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيسقيك بكأسه الأوفى) (3).
وعن الخوارزمي: (فبكى الحسين وقال : يا بني، عز على محمد وعلى علي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك وتستغيث بهم فلا يغيثونك، يا بني هات لسانك، فأخذ لسانه فمصه، ودفع إليه خاتمة وقال له: خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك، فاني أرجو أن لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً) (4)
فراح الشباب يشق طريقه لمجادلة الأعداء وهو يتوق إلى الشهادة لا يرضى دونها بدلا ثم توسط الميدان فشدّ يرتجز معرِّفاً بنفسه القدسيّة وغايته السّامية :
أنـا علـي بـن الحـسـيـن بـنـعلي نـحـن وربُّ البـيـت أُولى بالنبي
تـالله لا يحـكـم فيـنـا ابـن الدعي أضرب بالسيف اُحامي عن أبي
ضـرب غـلام هـاشـمـيًّ قـرشي
ولَم يتمالك الحسين (عليه السّلام) دون أن أرخى عينيه بالدموع وصاح بعمر بن سعد
مالك ؟ قطع الله رحمك كما قطعتَ رحمي ، ولَم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلّم) وسلّط عليك من يذبحك على فراشك ((5)
الأكبر(ع) وشهادته الدامية
لقد انحدرإلى القتال وقاتل الأعداء قتالا مستميتا حتى قتل فنادى رافعاً صوته : عليك منّي السّلام أباعبد الله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها ثم فر به فرسه إلى معسكر الأعداء فقطعوه بسيوفهم إرباإربا ، فجاءه الحسين(ع) وانكبّ عليه واضعاً خدّه على خدِّه وهو يقول:على الدنيا بعدك العفا ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول يعزّ على جدّك و أبيك أنْ تدعوهم فلا يجيبونك ،وتستغيث بهم فلا يغيثونك). ثمّ أخذ بكفّه من دمه الطاهر ورمى به نحو السّماء فلَم يسقط منه قطرة ـ وفي هذا جاءت زيارته: بأبي أنت واُمّي من مذبوح و مقتول من غير جرم ، بأبي أنت واُمّي دمك المرتقى به إلى حبيب الله بأبي أنت واُمّي من مقدّم بين يدَي أبيك يحتسبك و يبكي عليك محترقاً عليك قلبُه ، يرفع دمك إلى عنان السّماء لا يرجع منه قطرة ، ولا تسكن عليك من أبيك زفرة. (6)
استشهد علي الأكبر ( عليه السلام ) في العاشر من المحرّم 61 هـ بواقعة الطف في كربلاء ، ودفن مع الشهداء ممّا يلي رجلي أبيه الحسين ( عليه السلام ) .
ومدة عمره الشريف 19 سنة على رواية الشيخ المفيد ، أو 25 سنة على رواية غيره ، ويترجّح القول الثاني لما روي أنّ عمر الإمام زين العابدين ( عليه السلام يوم الطف كان ثلاثاً وعشرين سنة ، وعلي الأكبر أكبر سنّاً منه .
شهادة قمر بني هاشم العباس(ع)
أبو الفضل العباس ماكان وليد ثورة الطف فحسب وإنما كان أحد المقاتلين ألأبطال في حرب صفين وكانت له كرات وفرات وجولات وقد عرف ببطولته النادرة وبشدة بأسه وسطوته على جيش معاوية ابن أبي سفيان ..
ممّا يروى: أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) شاب على وجهه نقاب، تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة، يقدّر عمره بالسبع عشر سنة، يطلب المبارزة، فهابه الناس، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء، فقال: إنّ أهل الشام يعدونني بألف فارس، ولكن أرسل إليه أحد أولادي، وكانوا سبعة، وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، ولمّا برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه البسالة التي لاتعدو الهاشميين، ولم يعرفوه لمكان نقابه، ولما رجع إلى مقرّه دعا أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأزال النقاب عنه، فإذا هو " قمر بني هاشم " ولده العبّاس (عليه السلام). (7)
ولقد بانت هذه الفروسية والبطولة الحيدرية الهاشمية يوم عاشوراء حيث أنه عليه السلام قوم المعجزات بأريحيته وبطولته .
الشمر يعطي العباس(ع) الأمان
وفي كربلاء قبل بدأ المعركة بساعات جلب الشمر كتاب أمان للعباس لكنه خاب في مسعاه. فبعد أن استلم الشمر الأمر من ابن زياد بقتل الحسين ورضّ جسده تحت سنابك الخيل وأراد التوجه إلى كربلاء كان هناك عبدالله بن أبي محل (من قبيلة أم البنين والدة العباس) فأخذ أمانا للعباس واخوته وأرسله لهم بيد أحد الغلمان، لكنهم لما رأوا كتاب الأمان قالوا: "لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سمية"(
وفي رواية أخرى في يوم عاشوراء صاح الشمر بأعلى صوته : أين بنو اُختنا ؟ أين العبّاس وإخوته ؟ ، فأعرضوا عنه ، فقال الحسين : أجيبوه ولَو كان فاسقاً قالوا : ما شأنك وما تريد ؟ قال : يا بني اُختي أنتم آمنون ، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين ، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد . فقال العبّاس : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ، وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء . (9)
لماذا عرض الشمر اللعين صك الأمان للعباس وإخوته؟
الجواب: ذكر بعض المحللين بأن العباس وإخوته كانت قرابة في الرحم بينهم وبين الشمر عن طريق فاطمة أم البنين وأقول: ليس هدف الشمر من عرضه الأمان للعباس(ع) لأجل القرابة وإنما الدافع من تصرف الأبقع الأبرص الشمر الضبابي هو إضعاف جبهة الحسين(ع) لكي يلجئه إلى الإستسلام والعباس(ع) هو حلمل لواء أخيه ومن المعروف لدى العسكريين أن اللواء لايعطى إلا لقائد عسكري له حنكته ومرونته القتالية في الحرب والعباس يعد أكبر شخصية عسكرية في معسكر الحسين عليه السلام.
لأبي الفضل مواقف أريحية مشهودة
موقفه في ليلة العاشر
لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت، وأنقذهم من الظمأ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب (السقّاء) وهو من أشهر ألقابه، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الألقاب وأعزّها عنده(10).
موقفه في اليوم العاشر
أتى أمر من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد يستحثه على المنازلة ، فركبوا خيولهم وأحاطوا بالحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه ، فأرسل الحسين (عليه السلام ) أخاه العباس ومعه جملة من أصحابه ، وقال : ( سلهم التأجيل إلى غد إن استطعت ) ، فذهب ( عليه السلام ) إلى قادة العسكر وتكلّم معهم على التأجيل فأجّلوه .
الرواية تقول: كان قلب العباس(ع) يتحرق ألما وكانت اللوعة شديدة في صدره حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء، وأخذه بالقوة، وقد صحب معه ثلاثين فارساً، وعشرين راجلاً، وحملوا معهم عشرين قربة، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الإمام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد أعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:
(ما جاء بك؟..).
(جئنا لنشرب الماء الذي حلأتمونا عنه..)
(اشرب هنيئاً..).
(أفأشرب والحسين عطشان، ومن ترى من أصحابه؟.).
(لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء..).
ولم يعن به الأبطال من أصحاب الإمام، وسخروا من كلامه، فاقتحموا الفرات ليملأوا قربهم منه، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل، ونافع بن هلال، ودارت بينهم معركة إلا انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين، وعاد أصحاب الإمام بقيادة أبي الفضل، وقد ملأوا قربهم من الماء.
العباس(ع) وريث البطولة الحيدرية
بطل تورث مـن أبيــه شـجـاعــة فيهـا أنـوف بنـي الضلالة ترغم
مـاكـر ذوبــأس لــه مــتـقــدمـــا إلا وفــــــر ورأســه الـمــتــقــدم
لولا القضا لمحى الوجود بسيفه والله يعـلــم مـا يشــاء ويـحـكــم
ذكر بعض الأكابر: أن أمير المؤمنين (ع) كان جالسا ذات يوم في مسجد النبي (ص) وهو يحدثهم ويشوقهم إلى الجنة ويحذرهم من النار إذ جاء اعرابي وعقل راحلته على باب المسجد ودخل وإذا عنده صندوق فجاء وسلم على أمير المؤمنين (ع) وقبل يديه وقال مولاي جئتك بهدية قال وما هي فأحضر أمامه الصندوق فأمر (ع) بفتحه وإذا فيه شيء ملفوف فأمر بفله وإذا هو سيف وله حمائل فأخذه الإمام (ع) بيده يقبله إذ دخل العباس فجاء وسلم على أبيه ووقف متأدبا وأخذ يطيل النظر إلى السيف فقال له أمير المؤمنين (ع) بني أتحب أن أقلدك بهذا السيف؟ قال له العباس: نعم يا أبه أحب ذلك فقال له ادن مني فدنى منه فقلده إياه فطالت حمائل السيف على العباس فقصرها عليه ثم جعل أمير المؤمنين (ع) ينظر إلى ولده العباس ويطيل النظر إليه ثم تحادرت دموعه على خديه وبكى فقيل وما يبكيك يا أمير المؤمنين فقال (ع) كأني بولدي هذا قد أحاطت به الأعداء وهو يُضرب بهذا السيف يمنه ويسرة حتى تقطع يداه ويضرب رأسه بعمد من الحديد ثم بكى وبكى من كان حاضرا(11) .
أقول: إن العباس دربه أبوه أمير المؤمنين(ع) على فنون القتال وقد تخرج من الكلية العسكرية الإسلامية وهو مذخور لنصرة أخيه الحسين(ع) وقدحان ذلك اليوم المعهود له من قبل أبيه وإذا بأبي الفضل حامي الظعينة وساقي عطاشا كربلاء يطلب الأذن من أخيه الحسين(ع) لمقاتلة الأعداء وجلب الماء لمخيم النساء والأطفال فكان هو الأمل الذي يبلل الأكباد الحرى الذي لم تذق الماء مدة ثلاثة أيام .
وعلى رواية الشيخ المفيد يقول: وبعد محاولات عديدة لطلب البراز من أخيه الحسين(ع) أذن له لكنه كاره لمبارزته وقد أذن له وقال له إذا كل ولابد فاصطحب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء.ثم حمل العباس على القوم وأجلاهم عن المشرعة وهو يقول:
لا أرهـبُ المـوتَ إذا المـوتُ رَقـــَا حـتـّى أواري فـي المصَـالـيتِ لُقَى
نفسي لنفسِ المُصطَفَى الطُّهر وَقَا إنّــي أنــا العـبّـَاس أغـدو بالسـقَـا
ولا أخـافُ الشــرَّ يـتوم المُلتَقَــى
ووصل إلى ماء الفرات ، فغرف منه غرفة ليطفئ لَظَى عطشه ، فتذكَّر عطش الحسين ( عليه السلام ) ، ورمى بالماء وهو يرتجز ويقول :
يَا نفسُ مِن بعد الحُسين هوني مــِن بـعـدِهِ لا كـُنـتِ أن تَكـُوني
هَـذا الحـسـيـنُ وَارِدَ الـمـَنــونِ وتشـرَبـيــنَ بـَـاردَ الـمـَعـيــــنِ
تـاللهِ مــَا هَــذي فِـعَـــال دِيـنـي
فملأ القربة وعاد فحمل على القوم ، وقتل وجرح عدداً منهم ، فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة ، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي ، فضربه على يمينه فقطعها ، فأخذ ( عليه السلام ) السيف بشماله ، وحمل وهو يرتجز :
واللهِ إنْ قـَطـعـتُـمُ يَمـيـني إنِّي أُحَامي أبداً عن ديني
وعَـن إمـامٍ صَادِقِ اليقين نَجلُ النبيِّ الطاهِرِ الأمينِ
فقاتل ( عليه السلام ) حتّى ضعف ، فكمن له الحَكَم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة ، فضربه على شماله فقطعها ، فقال ( عليه السلام ) :
يا نفسُ لا تَخشي مِن الكُفَّارِ وأبشِـري بـِرَحـمـة الجَـبّــَارِ
مَـعَ الـنـَّبـيِّ السيـِّد المخـتار قَـد قـطعـوا بِـبَـغيهم يَساري
فأصْلِهِـم يَـا ربِّ حَـرَّ النّــَارِ
فأخذ القربة بِفَمِه ، وبينما هو جاهد أن يوصلها إلى المخيَّم ، إذ صُوِّب نحوه سهمان ، أحدهما أصابَ عينه الشريفة ، فَسالَت ونبت السهم فيها .
وأمَّا الآخر فقد أصاب القِربة فَأُرِيق ماؤها ، وعندها انقطع أمله من إيصال الماء ، فحاول أن يخرج السهم الذي في عينه ، فضربه ملعون بعمود من حديد على رأسه ففلق هامته وفاضت روحه المقدسة الطاهرة وبقي مطروحا على نهر العلقمي ..
بطل العلقمي وشهادته الدامية
ترك استشهاد قمر بني هاشم مرارة وألماً في قلب الحسين(ع)، ولما سار إلى مصرعه ووقف عند رأسه قال قولته الطافحة بالألم والأسى: "الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي" (12)
وبقى جسده إلى جانب نهر العلقمي فيما رجع الحسين(ع) إلى الخيام وأخبر أهل البيت بمصرعه، ودُفنَ- حين دُفنت أجساد أهل البيت- في نفس ذلك الموضع. ولهذا السبب نلاحظ اليوم وجود هذه المسافة الفاصلة بين مرقد العباس ومرقد الحسين عليهما السلام.
وقد وصف الإمام السجاد عليه السلام المعالم البارزة لشخصية العباس بن علي بالشكل التالي: "رحم الله عمي العباس فلقد آثر وأبلى وفدا أخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله الله عزّ وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل جعفر بن أبي طالب. وأنَّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"(13)
وورد ذكر اسمه في زيارة الناحية المقدسة على لسان الإمام المهدي عليه السلام، وسلّم عليه كالآتي: "السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه. . ."(14)
فشهادة العباس دامية(ع) لكنها بقيت خالدة في السماوات والارض خالده لانها كانت لأجل الدين ، وخالدة لانها لحبيب قلب الزهراء(ع) ، وخالدة لأنها من أجل سيدة العفاف والخدر الحوراء زينب(ع)،وخالدة لأنها من أجل أطفال ونساء ركب سيد الشهداء(ع)، نعم بقيت الكيفية التي استشهد عليها العباس(ع) وقد أبلى بلاءا حسنا من قطع لليدين ونشوب السهم في العين وعمد الحديد قد أصابه في الجبين ولم تكن هناك صورة استشهاد في كربلاء اكثر تأثيراً من استشهاد أبي الفضل الا صورة استشهاد أخيه الامام الحسين عليه السلام ...
واستشهد العباس ( عليه السلام ) في العاشر من المحرّم 61 هـ بواقعة الطف في كربلاء ، دفن فيها . فسلام الله على قمر العشيرة يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا ورزقنا الله تعالى في هذه الدنيا زيارته وفي الآخرة شفاعته ..
شهادة القاسم بن الحسن(ع)
أبوه: الإمام الحسن المجتبى سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنّة.. ابن أمير المؤمنين، وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب، وابن سيّدة نساءالعالمين من الأوّلين والآخِرين فاطمة الزهراءالبتول، بضعة الهادي المصطفى الرسول، صلوات الله عليهم أجمعين.
وأُمّه: رَمْلَة (15)
وقد ورد ذِكْر القاسم بن الحسن المجتبى عليه السّلام في: إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس، والإرشاد للشيخ المفيد، وتاريخ الطبريّ، ومقاتل الطالبيّين للإصفهانيّ أبي الفَرَج، ومروج الذهب للمسعوديّ، ومقتل الحسين عليه السّلام للخوارزميّ.. وغيرها من مصادر المسلمين، ذاكرين أنّ القاسم هو أخو أبي بكر بن الحسن، المقتول قَبلَه، لأمّه وأبيه، والذي قتَلَه عبدُالله بن عُقبة الغَنَويّ. (16 )
كم كان عمر القاسم بن الحسن المجتبى(ع) يوم كان في واقعة الطف؟
أكثر الروايات تؤكد أنّ القاسم بن الحسن عليه السّلام، هو غلامٌ صغير لم يبلغ الحُلُم ومع تضارب الروايات في عمره الشريف إلا أننا نقف على روايتين :
الأولى تقول: برز القاسم بن الحسن عليه السّلام، وهو غلامٌ صغير لم يبلغ الحُلُم فلمّا نظر الحسينُ إليه وقد بَرَز اعتَنَقَه، وجعلا يبكيان حتّى غُشِيَ عليهما. ثمّ استأذن الحسينَ عليه السّلام في المبارزة، فأبى الحسينُ أن يأذَن له، فلم يَزَل الغلام يُقبِّل يدَيه ورِجلَيه حتّى أذِن له، فخرج ودموعه تسيل على خَدَّيه وهو يرتجز ويقول:(17)
إن تـُنـكـرونـي فأنا إبـنُ الحـسَـنْ سبطُ النبيّ المصطفى والمُؤتمَنْ
هـذا حـسـيـنٌ كـالأسيرِ المُـرتَهَنْ بينَ أُناسٍ لا سُقُوا صَوْبَ المُزَنْ
وعلى رواية أن القاسم لم يبلغ الحلم يوم كربلاء مجموعة من المحققين في التاريخ وكرروا نفس لفظ الروايةالأولى.. وجاءت بهذه الصيغة.
وخرج القاسم، وهو غلامٌ لم يبلغ الحُلُم، فلمّا نظر إليه الحسين عليه السّلام اعتَنَقَه وبكى، ثمّ أذِن له، فبرز كأنّ وجهه شِقّة قمر، وبيده السيف، وعليه قميصٌ وإزار وفي رِجلَيه نعلان، فمشى يضرب بسيفه، فانقطع شِسعُ نعله اليُسرى . (18)
وأما الرواية الثانية فهي تقول: فبَرَز القاسمُ وله أربع عشرة سنة، وحمل على القوم.. ولم يَزَل يقاتل حتّى قتل سبعين فارساً، وكَمِن له معلونٌ فضربه على أُمّ رأسه، ففجرها منه وخَرّ صريعاً يخور بدمه، فانكَبَّ على وجهه وهو ينادي: يا عمّاه أدرِكْني. فوثب الحسين عليه السّلام ففرّقهم عنه، ووقف عليه وهو يضرب الأرض برِجلَيه حتّى قضى نَحْبَه، فنزل إليه الحسين عليه السّلام، وحمله على ظهر جواده وهو يقول:
اَللّهمّ إنّك تَعلَمُ أنّهم دَعَوْنا لِيَنصُرونا، فخَذَلونا وأعانوا علينا أعداءَنا، اللّهمّ احبِسْ عنهم قَطْرَ السماء، واحرمْهُم بركاتِك، اللّهمّ فَرِّقْهُم شُعَباً، واجعَلْهُم طَرائقَ قِدَداً، ولا تَرضَ عنهم أبداً. اللّهمّ إنْ كنتَ حَبَستَ عنّا النصرَ في دار الدنيا، فاجعَلْ ذلك لنا في الآخرة، وانتَقِمْ لنا من القوم الظالمين.
ثمّ نظر إلى القاسم وبكى عليه، وقال: يَعزّ ـ واللهِ ـ على عمّك أن تَدعُوَه فلا يُجيبك. ثمّ قال: هذا يومٌ قَلَّ ناصرُه، وكَثُر واترُه. ثمّ وضع القاسمَ مع مَن قُتِل مِن أهل بيته.(19)
على أي حال نحن شيعة أهل البيت(ع) نأخذ بالروايتبن الأولى والثانية التي صرحتا بعمر القاسم وحددته في 14 سنة أو التي لم تصرح بذلك فالروايتان أكدتا أنه عليه السلام في يوم الطف شبل يافع لم يبلغ الحلم ولا يهمنا تحديد عمره أكثر مما يهمنا كمعزين ومواسين للعترة الطاهرة أن نفرد لهذا الشهيد البطل يوما واحدا في أيام عاشوراء ونقيم عليه مراسم الحداد والعزاء وما زواج القاسم الذي نص عليه الطريحي طيب الله ثراه في المنتخب إلآ لأجل تهييج العاطفة لدى المحبين وزيادة الإلتصاق بإحياء الشعائر الحسينية بمستوى الحزن والكآبة.
وليس من حق أي إنسان أن يرد أو يشكك في هذا الأمر طالما قد مارسوه علماء أجلاء من قبلنا فعلينا أن نأخذ بالروايتين ونعمل بعملهما ونغرس في أجيالنا القادمة بذرة الإلتصاق والتأسي بشبل الطفوف وعريس الشهادة القاسم ابن الحسن عليه السلام الذي بيراعته وأريحيته وتضحيته خط نهج الفداء يوم كربلاء ..
خـضابه الدم والنبـل النثار وقد زفته أعدائه بالبيض والسـمــر
فـاغـتال مفرقه الأزديّ بمرهفه فـخـر لـكـن بـخـد مـنـه منعـفــر
يا ساعد الله قـلب السبط ينظره فـردا ولم يبلغ العشرين للعـمـر
إن يـبـكـه عمه حزنا لمصرعـه فـمـا بـكـى قـمـر إلا عـلـى قمـر
مصرع عبدالله الطفل الرضيع
لولم يكن من بقايا ثورة الطف المجيدة إلا مصرع الطفل عبدالله الرضيع لكفانا لاستدرار الدموع وإظهار الجزع والبكاء عليه لأن هذا الطفل الطاهر له شأن عظيم عند الله تعالى لأنه خلق من أصلاب طاهرة مطهرة جده رسول الله(ص) وجدته لأبيه الصديقة الكبرى الطاهرة فاطمة الزهراء وجده لأبيه الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام وأبوه سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين(ع) وماسمع أحد من البشر مصرع هذا الطفل الرضيع الذي ذبحه حرملة بن كاهل من الوريد إلى الوريد إلا وبكى على مصرعه وقصته المفجعة مدونة في كتب المقاتل..
كلمات خالدة في رضيع الحسين
في ظهيرة يوم العاشرلم يبق لسيد الشهداء الإمام الحسين(ع) من تلك الصفوة إلا ـ طفله الرضيع لم يتجاوز الأشهر الستة من طفولته ـ أخذ به الظمأ، وقد جف لبن أمه من العطش، حملته أمه إلى ساحة الوغى، ووضعته في حضن أبي,وقيل الذي حملته أخته سكينة وناولته الحسين(ع) وأمه الرباب لم تطق رؤيته وهو قد دلع رقبته من شدة الظمأ، وهو يعاني سعير الموت وقد ذبل عوده ويبست شفته وكأن لظى الهجيرخيم على شفاه ذابله، وجذوة الطفولة البريئة يغفو شاحباً على وجنتين أتعبهما رهج الموت، وبين أنين جراح الأب المظلوم .
يرفع الإمام الحسين طفله على كفين مجهدتين أمام الجيش الأموي المقاتل، ويصيح بضعيف صوته، يا أعداء الله، يا جيش بني أمية إن كان للكبار ذنب تقتلوهم، فما ذنب هذا الرضيع، خذوه واسقوه جرعة من الماء قبل أن يفارق الحياة!
فيختلف الجيش الأموي فيما بينه، بعض يوافق وآخر يعترض قائلاً: إن كان الكبار لم يبايعوا يزيداً! فما ذنب هذا الرضيع؟
وآخر ينادي اقتلوا أهل هذا البيت كبيرهم وصغيرهم لتخلوا الأرض لبني عبد شمس.
ويحملق عمر بن سعد في جيشه واختلافهم فيما بينهم، وقبل أن يفقد سيطرته يشير إلى احد قواد جيشه وهو حرملة بن كاهلة قائلاً له:
يا حرملة اقطع نزاع القوم واقتل الرضيع، وعلى فوره سدّد سهماً إلى رقبة الطفل، فذبحه من الوريد إلى الوريد، تاركاً الرضيع يرفرف بين يدي والده الإمام الحسين (عليه السلام) ومن حرارة السهم أخذ يحفص برجليه فبتر القماط ..
وانفجر الدم يشخب من وريده، فيرمي الحسين(ع) بقطرات دم منحره إلى السماء...(20)
قال أبو جعفر الباقر (ع) : (فلَم تسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض) (21) .
وفيه يقول حُجّة آل محمّد (عجّل الله فرجه): السّلام على عبد الله الرضيع المرمي الصريع، المتشحط دماً ، والمصعد بدمه إلى السّماء ، المذبوح بالسّهم في حجر أبيه ، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه. (22)
وما هي إلا لحظات وذبل الطفل عبدالله الرضيع، وتجمد دمه الطاهر على منحره، ثم صعدت روحه البريئة إلى بارئها فحمله الأب المفجوع المظلوم إلى معسكره، لتراه أمه مذبوحاً، فتصاب بالذعر والذهول.
أتــرى تجــيء مـصــيبــة بأمـض مــن تلك الفجـيـعه
حيث الحسين على الـثرى خيل العدى طحنت ضلوعه
ورضــيعــه بـدم الــوريــد مخـضـب فاطلب رضـيعــه
------------------------------------------------
1- أعيان الشيعة للسيد الأمين ج 41 ص 171
2- الفتوح ج 5 ص 209 . مقتل الحسين ـ للخوارزمي ح 2 ص 30 ـ 31 .
3- الفتوح لابن أعثم : ج 5 ص 209.
4- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ج 2 ص 31 .
5- مقتل الحسين للمقرم: ص 257
6- كامل الزيارات / 239
7- مقتل الحسين للمقرم: ص 242
8- الكامل لابن الأثير 558:2
9- واقعة الطف: ص 190.
10- أنساب الأشراف 3: 181.
11- النص الجلي للناصري : ص 49 ، مجمع المصائب: ج1 ص 247
12- معالي السبطين 446:1، مقتل الخوارزمي 30:2
13- سفينة البحار155:2
14- بحار الأنوار 66:45
15- تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 103
16- الإرشاد للمفيد: ص 240
17- مناقب آل آبي طالب: ج4 ص 106
18- راجع مقتل الحسين للخوارزمي ، تاريخ الطبري: ج6 ص 256 ، وإعلام الورى للطبرسي: ص 146
19- مقتل الحسين لأبي مخنف: ص 124 ـ 126
20- مقتل المقرم: ص 272
21- شهر آشوب 2 / 222
22- مقتل المقرم: ص 272 نقلا عن زيارة الناحية