أكبر من الغضب.. ومن الأسف المرفوض
بقلم: جلال عارف
صحيفة البيان الإماراتية 11/6/2006
بالصدفة طبعاً جاء رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت إلى شرم الشيخ للقاء الرئيس المصري مبارك عشية الخامس من يونيو. ومع ذلك لم يكن هذا التوقيت الغريب هو ما آثار موجة الغضب في الرأي العام المصري، وإنما جاء الغضب بعد أن ساد التوقع بأن يتم إلغاء الزيارة في اللحظات الأخيرة احتراماً لمشاعر المصريين التي صدمها الحادث المأساوي الذي راح ضحيته اثنان من جنود الشرطة المصريين برصاص الجنود الصهاينة على الحدود المصرية قبل يومين فقط من الزيارة المشؤومة.
وقد اختلفت الروايات حول ظروف استشهاد الجنديين المصريين، حيث زعمت المصادر الصهيونية أن ثلاثة من الجنود المصريين عبروا الحدود وفتحوا نيران أسلحتهم على جنود إسرائيليين، فردوا عليهم وقتلوا الجنديين وفر الثالث عائداً إلى داخل مصر!
بينما تقول رواية ثانية إن الجنديين عبرا الحدود دون قصد فتم إطلاق النار عليهما دون إنذار. أما الرواية الثالثة فتقول إن الجنديين قتلا داخل الحدود المصرية وتم سحب الجثتين إلى داخل "إسرائيل" لإخفاء الجريمة.
ومهما اختلفت الروايات فإن المؤكد أن الإسرائيليين كانوا (بما يملكون من معدات) يعرفون جيداً هوية الجنديين، ومع ذلك تم القتل عمداً، وكان التبرير أنهم خشوا أن يكون الجنديان من الإرهابيين!! المتخفين في الزي العسكري المصري.
إنها نفس المزاعم التي ساقتها "إسرائيل" في حادث مماثل في نهاية عام 2004 راح ضحيته ثلاثة من الجنود المصريين في ظروف مشابهة. ومن هنا انتظر الرأي العام المصري قراراً لم يصدر بإلغاء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وجاء أولمرت إلى شرم الشيخ ولم يكلف نفسه حتى عناء الاعتذار عن الجريمة، وإنما اكتفى بإعلان عن «الأسف» وبالموافقة على تحقيق مشترك في ظروف الحادث!!
الغضب الوطني على الجريمة الإسرائيلية، وعلى رد الفعل الذي لم يستطع إلغاء زيارة رئيس الحكومة التي ارتكبت هذه الجريمة، يطرح من جديد ملف أمن مصر وما يتهدده من الجانب الإسرائيلي وما تفرضه المعاهدة المصرية - الإسرائيلية من ترتيبات أصبحت عائقاً في تأمين الدفاع عن مصر وعاملاً في هز استقرارها.
الملف كان مفتوحاً من زاوية أخرى، وعلى خلفية أحداث دهب التي صدمت كل مصر، ونبهت إلى خلل أمني كبير، واستحضرت العامل الإسرائيلي في ظل توالي الأحداث الإرهابية في «طابا» و«شرم الشيخ» ثم «دهب». وللمرة الأولى تناقش وسائل الإعلام المصرية الرسمية احتمال التورط الإسرائيلي في هذه الأحداث لضرب السياحة وهز الاستقرار.
ففي أحداث «طابا» قبل ذلك كان هناك قتلى إسرائيليون، وكان استهداف الأماكن التي يمكن أن يكون بها سياح إسرائيليون احتمالاً قوياً في إطار رد محتمل على جرائم "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني. وفي أحداث «شرم الشيخ» كان العامل الإسرائيلي لا يتردد «رسمياً» وإن كان مطروحاً لدى العديد من المراقبين.
ولكن في «طابا» كان الأمر أكثر من احتمال، في ضوء ما تكرر من تحذير مسبق من السلطات الإسرائيلية لرعاياها من التواجد في سيناء في الفترات التي تمت فيها الاعتداءات.
وفي ضوء وقوع الحادث مع ذكرى تحرير سيناء وكأنه رسالة إن الأمر لم ينته بالانسحاب الإسرائيلي منها، وهو أمر لا يمكن أن يكون صدفة في ظل وقوع حادثي طابا وشرم الشيخ في مناسبتين وطنيتين أيضاً.
تفجيرات «دهب» التي صدمت الجميع لأنها تضرب في نفس المنطقة لثالث مرة في فترة زمنية قصيرة طرحت أسئلة كثيرة تتعلق بالأمن ومستقبل سيناء، لكن أخطرها كان ما يتعلق بـ"إسرائيل".. فقد كان طبيعياً أن يكون أول ما تطرحه التفجيرات من أسئلة هو:
لماذا تظل هذه المنطقة من سيناء مستباحة للإسرائيليين بموجب المعاهدة المصرية - الإسرائيلية؟ ولماذا يسمح لهم - حتى الآن - بالتواجد في هذه المنطقة بدون تأشيرات دخول؟ وإذا كانت الظروف التي وقع فيها السادات هذه المعاهدة قد سمحت بإعطاء هذا التنازل.. فلماذا يستمر حتى الآن؟
ولماذا نترك لدى الإسرائيليين أي «إحساس» بأنهم مميزون في علاقتهم بهذا الجزء من أرض مصر؟ وهل يمكن أن تستمر هذه الأوضاع بعد أن تحولت المنطقة إلى مقصد سياحي عالمي؟
ثم.. إذا كانت هذه المنطقة تمثل ثلث الطاقة السياحية في مصر، فكيف يمكن تأمينها في ظل مخاطر لم تعد مجرد احتمال، بل تكررت من طابا إلى شرم الشيخ إلى دهب؟ كيف يمكن تأمينها في ظل القيود التي تفرضها المعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية على الوجود العسكري المصري في هذه المنطقة؟
وإذا كانت تحقيقات سلطات الأمن المصرية قد أشارت إلى علاقات شملت التدريب والتمويل من جانب «فلسطينيين» لبعض المتورطين في أحداث دهب، فإن أحداً لا يتصور على الإطلاق أن يتورط أي فصيل فلسطيني مقاوم في هذا الشأن، ولابد أن تكون أصابع "إسرائيل" هي التي تحرك مثل هذا التآمر الذي يحقق في النهاية مصالح الكيان الصهيوني وحده.
الملف كان مطروحاً على العلن منذ أحداث دهب، ويشارك في مناقشته الخبراء حتى من داخل المؤسسات الرسمية. ثم يجيئ الحادث الأخير ليزداد التركيز على هذا الملف ليس فقط أخذاً بالثأر للشهيدين الذين سقطا برصاص الغدر الإسرائيلي، ولكن لأن الأمر يتعلق بأمن قومي مهدد، وبسيادة لابد أن تكتمل على حدود مصر مع دولة لا تعرف إلا العدوان ولا تؤمن إلا بالتوسع.
لم يعد الأمر يتعلق بأمثالنا ممن عارضوا الاتفاقية المصرية - الإسرائيلية منذ البداية، ونبهوا إلى مخاطرها على الأمن القومي العربي، وانتقاصها من السيادة المصرية على سيناء ومن قدرة مصر على الدفاع عن نفسها في ظل القيود المفروضة على الوجود العسكري المصري في سيناء.
بل امتد التساؤل ليشمل كل القوى، بمن فيهم القريبون من الحكم عن ضرورة النظر في الأوضاع التي تترك مهمة الأمن في هذا الجزء الخطير من أرض الوطن بلا تأمين حقيقي من قوات قادرة على التعامل مع المخاطر التي تزداد، في ظل إرهاب تعددت ضرباته أكثر من مرة في المنطقة، وفي ظل إرهاب أكبر يمثله الوجود الإسرائيلي نفسه، ولا يمكن أن تكون حماية الحدود معه موكولة لجنود شرطة بأسلحتهم الخفيفة!
وإذا كان البعض يطالب ـ كإجراء سريع وفوري ـ بترتيبات مماثلة لما تم الاتفاق عليه مع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، حيث تم تعديل الترتيبات الأمنية بما يسمح بوجود بضع مئات من الجنود المصريين مع آلاتهم العسكرية لتأمين الحدود المصرية مع قطاع غزة، بحيث يتم نشر قوات مماثلة على الحدود بين مصر و"إسرائيل" الخاضعة لترتيبات المعاهدة.
إذا كان البعض يطالب بذلك كإجراء سريع وعملي، فإن البعض الآخر يطالب بإلغاء كل القيود الواردة في هذه المعاهدة على الوجود العسكري المصري في سيناء.
وهو أمر يدرك الجميع أن "إسرائيل" لن تقبل به إلا مضطرة، وأن الولايات المتحدة الأميركية لن توافق عليه، وبالتالي فهو يمثل هدفاً استراتيجيا لابد لتحقيقه من تهيئة الظروف وحشد القوى وممارسة كافة الضغوط لإنهاء هذه الأوضاع، خاصة أن الجانب الإسرائيلي - الأميركي يدرك أن هذه الأوضاع لا تتعلق بكميات السلاح أو الجنود على الحدود، فالأسلحة الحديثة قادرة على تجاوز هذه العقبة في حالة الحرب أو الصدام.
لكن الأمر يتعلق بتثبيت رسالة سياسية بأن كل ما يمكن من إجراءات سيتم فرضها على الجميع من أجل أمن "إسرائيل"، وبأن كل الجهود الأميركية الإسرائيلية ستكون مع إبقاء سيناء كمنطقة عازلة بين مصر وعالمها العربي في المشرق، وبأن "إسرائيل" ستكون حاضرة على الدوام ولا مانع لديها من أن تتلقى مصر بين الحين والآخر رسائل من نوع الرسائل التي تلقتها في دهب وقبلها في شرم الشيخ وطابا!
الأخطر هنا.. هو ما طرحته "إسرائيل" بصورة غير رسمية بعد أحداث دهب من الحاجة إلى تعاون دولي يمنع تحويل «سيناء» إلى منطقة تسيطر عليها قوى «الإرهاب» وتصدره من هنا إلى دول المنطقة!
وينسى من قاموا بهذا الطرح أن الإرهاب هو صناعة إسرائيلية، وأن تقييد تسليح القوات المصرية ثم الدفع بعصابات الإرهاب في مواجهتها هو لعبة مكشوفة، و أن الحل لا يمكن أن يكون بالقوات الدولية بل باستعادة السيطرة المصرية الأمنية الكاملة على سيناء.
وقد تعاملت مصر بحسم في رفض مثل هذه الأفكار التي تم تسريبها، ورغم أنها تطرح بصورة غير رسمية من جانب العدو الإسرائيلي، فإنها تكشف عن جانب من نوايا الطرف الآخر لا بد أن يوضع في الحسبان.
و.. رحم الله الشهيدين بدوي محمد صادق وأيمن السيد حامد آخر ضحايا الإرهاب الإسرائيلي على حدود مصر. ولا عزاء لنا إلى أن نكون قادرين على الرد.. وعلى الردع.
نقيب الصحافيين المصريين