العراق... دماء ودموع ومجتمع مدني في إجازة
شبكة النبأ: ما يزال السؤال الحائر بين الناس دون جواب: من المسؤول عن إراقة كل هذه الدماء في العراق، بسبب التفجيرات الانتحارية والاغتيالات على الهوية ووسائل الموت العديدة؟
إنه "الإرهاب".. لكن هل هذا المصطلح الفضفاض والمشبوه، يمثل جهة سياسية، او تنظيم معارض؟ وهل إن "القاعدة" تمكنت من أن تجسد هذا المصطلح بالكامل، كما اراد ذلك الأميركيون منذ اجتياحهم العراق عام 2003 وخلال بحثهم الحثيث عن عدو غير صدام؟
هذا الارهاب الذي يسفك دماء الابرياء في العراق، كان بالأمس القريب، سبباً أو "شمّاعة" للحكومة علّقت عليها العديد من المشاريع الفاشلة والمتلكئة، وفي مقدمتها، الكهرباء.. وبشكل هادئ ودونما ضجة اعلامية، تخلّت الحكومة عن هذه الشماعة، لأن السبب بات واضحاً للناس، وقد كشف القيادي في حزب الدعوة والنائب في البرلمان، عزّت الشاهبندر، قبل أيام عن حقيقة الكهرباء في العراق، بأن "الكهرباء محرقة للمال"، بمعنى أن الارهاب لم يكن يوماً السبب الأساس في عدم حصول الناس على الكهرباء بشكل مريح، إنما هذا الكهرباء هو بحد ذاته مشكلة..! فهو عامل هدر المال، وعليه لا ينبغي إشغال البال به كثيراً، مع وجود المولدات الأهلية وحصص الوقود التي توفرها الدولة لاصحاب المولدات!
بعد كل هذه السنين العجاف، وهي عقد كامل من الزمن، يأتي هذا الرد والكشف عن حقيقة الكهرباء للعراقيين، بأنه من المستبعد أن يأتي اليوم الذي لا يشاهد الانسان العراقي أسلاك المولدات الأهلية في الشوارع والطرقات، وينعم بالطاقة الكهربائية، كما هو حال سائر سكان العالم. فماذا ينتظر العراقيون من رد وكشف لحقيقة الموت المنظّم الذي يطاردهم في المساجد والحسينيات والمقاهي وعلى الطرق العامة، وفي أسواق الخضار والفاكهة، وحتى في مجالس الفاتحة؟
المتابعون والمعنيون بالوضع الاجتماعي والسياسي، يلاحظون غياباً كبيراً لدور مؤسسات المجتمع المدني ودوائر الضغط في الدولة، في مقابل استئثار النخبة السياسية الحاكمة بمقدرات الأمور، ومن المثير أن نلاحظ أن النواب في البرلمان والوزراء في الحكومة والقادة الأمنيون، يقومون بدور الحاكم والمعارض في آن..! فهم يتشدقون يوماً بالانجازات والبطولات، وفي يوم آخر، نرى من يكشف عن بؤر الفساد، ومن ينتقد التباطؤ في مشاريع الخدمات، ومن يفضح نقاط الضعف والثغرات والسلبيات وهكذا.. فتظهر الازمات مثل الريح الصفراء تكتسح الواحات الخضراء وتحيلها جرداء، ثم تذهب وكأن شيئاً من يكن. فأين وزير التجارة عبد الفلاح السوداني، بعد أن افحمته النائبة عن "دولة القانون" حنان الفتلاوي، وكشفت الكم الهائل من الفساد وسرقة لقمة عيش الناس؟ وقبله؛ أين يكون الآن وزير الكهرباء كريم وحيد، الذي أفحمته النائبة عن "كتلة المواطن"، جنان العبيدي، وكشفت بعض الاسباب الخفية وراء تلكؤ مشاريع الكهرباء؟
إن الاوضاع المعيشية القاسية، من الغلاء غير المبرر في المواد الغذائية والنقل والسكن، و"البطالة المقنعة"، والتسيّب الأمني الرهيب، لا يسمح بأي حال من الاحوال، لأن تتكرس ظاهرة التهدئة والتبرير والاسترسال في الأخطاء القاتلة. ربما لا يشعر بهذه الأخطاء من يعيش في محيط آمن نسبياً، يستيقظ في الصباح الباكر، ويذهب الى عمله، وربما يمتلك وسيلة النقل الجيدة لتبعده عن غبار وضوضاء الشوارع. ثم يعود الى منزله، وهو لا يسمع ما يعكّر على افراد عائلته شيء، ثم ينتظر نهاية الشهر ليقبض الراتب المجزي، او قد يكون من اصحاب المهن الحرة. إنما الأسرة التي فقدت معيلها في انفجار عبوة ناسفة او سيارة مفخخة، أو تم اغتياله لسبب أو لآخر، كما حصل مؤخراً لاربعة عشر سائقاً لشاحنات على الطريق بين كركوك وبغداد.
إن الاحتقان الدفين في أعماق الشريحة المنكوبة بالمجتمع، هي بالحقيقة تمثل مسؤولية واستحقاق أمام الشريحة المثقفة والواعية في المجتمع لأن تتحرك بسرعة لانقاذ ما يمكن انقاذه، وتفادي الأعظم والأمر. ولمن يتابع الاوضاع عن كثب، يجد أن المرحلة الراهنة قد تجاوزت الحلقة الاجتماعية والقاعدة الجماهيرية، من قبيل مشاريع البر والإحسان، الى الحلقة السياسية الأعلى حيث مراكز القرار المسؤولة عن التردّي الأمني والتدهور الاقتصادي، بمعنى أن المطلوب حالياً ليس فقط تنظيف وإزالة مساوئ السياسة عن وجه المجتمع بالمساعدات الانسانية والمشاريع الخيرية، إنما بالعمل على تنظيف داخل الجهاز الحكومي. أما الآلية فانها تتحدد بعد أن تتشكل الإرادة القوية والشاملة لدوائر الضغط في المجتمع، والمتكونة -عادةً- من الاكاديميين، واصحاب رؤوس الأموال والتجار، والنقابات المهنية والجمعيات، وحتى المشاهير في عالم الفن والرياضة وغيرها، وفي العراق، نتميز بوجود جهتين فاعلتين لهما جذور عميقة في المجتمع، هما: المؤسسة الدينية متمثلة بالحوزة العلمية، والعشائر.. كل هؤلاء الى جانب مؤسسات المجتمع المدني، التي تعمل بشكل منظم، من شأنهم تقويم المسار المنحرف الذي ينحدر فيه العراق، وتقديم البديل الأفضل والأنجع لمشاكل وأزمات البلد والشعب.
صحيح، إن الناس يعدون الحكومة، وجميع مؤسسات الدولة، هم المعنيين والمسؤولين عن حل مشاكلهم وسد احتياجاتهم، لما يمتلكونه من الاموال والسيطرة على الجهاز الاداري. إلا انهم سينظرون بثقة عالية الى الجهات والرموز المنبثقة منهم، وهي تتحمل المسؤولية بكل إخلاص وتفان. فاذا كان النائب والوزير، يمثلان رأي الشعب، فان رئيس العشيرة ومرجع الدين والاستاذ أو المدرس ، يمثل ضميرهم ووجدانهم، فهو منهم واليهم، وعلى تماس مع الازمات والمشاكل التي يعيشونها. هذه النقطة الدقيقة، لابد من الالتفات اليها والمحافظة عليها، لأنها تمثل صلة الوصل بين عامة الناس وبين قلب الجهاز الحاكم، وإلا لن يصل الى الاخير صوت ولا حسيس ولا شكوى، عندما تكون هنالك امتيازات خاصة توزع هنا وهناك.
وهذا ما فطن اليه معظم الديكتاتوريين، ومنهم "صدام"، عندما سارع في بداية حكمه الى بتر العلاقة بين الطبقة الواعية والمثقفة، وبين عامة الناس، أو لنقل انه قام بتمييع وإزالة تلك الطبقة والشريحة من الوجود، لينفرد هو في عملية التضليل والتغرير والتزييف، وكل ما من شأنه تكريس حكمه وتحقيق طموحاته واهدافه الدنيئة التي لن يتخلص العراق من جروحها ومساوئها، إلا بعد عقود من الزمن.
واعتقد جزماً أن مواقع التواصل الاجتماعي التي كان لها دور بارز في إشعال فتيل ثورات وانتفاضات، قادرة في العراق على أن يكون لها دور في إصلاح حقيقي وتغيير جذري، فالناس ليسوا بحاجة الى أمور تثير أعصابهم وتزيد في همومهم، كمن يوجه الى شخص مكفوف البصر تحذيراً بألا يسقط أرضاً، وتذكيره بحالة العوق التي يعيشها. إنما بحاجة ماسّة اليوم الى الشجاع الذي يثير رواسب الجهاز التنفيذي والقضائي والتشريعي، ويدين الجميع على مساوئهم ويقوّم أعمالهم.
فهل من الصحيح أن يقف الناس بسياراتهم أمام جهاز السونار الذي يتحدث المسؤولون أنفسهم عن فشله وزيفه؟! وهل يمكن السكوت على أزمة الكهرباء رغم مرور عقد كامل من الزمن على إقامة نظام ديمقراطي وتشكيل حكومة يفترض انها ممثلة من قبل الشعب؟ هنالك ملفات عديدة في الخدمات، مثل التربية والصحة والبطاقة التموينية والمواصلات وغيرها، وهنالك الملفات السياسية والاقتصادية التي جعلت العراق اليوم كورقة يابسة في مهب الريح.
شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 29/تموز/2013 - 20/رمضان/1434