شبكة النبأ: ليس في بغداد العاصمة، حيث يسود التصور أن المرأة هناك يمكن أن تمتلك مساحة واسعة من الحراك الاجتماعي، والتواصل مع الاخرين، وتحقيق نوع من الاستقلالية في حركتها، اقول ليس في بغداد، بل في كربلاء، المعروف عنها انها مدينة دينية، وايضا مدينة ذات طابع ريفي قبل زحف البناء عليه، وككل تلك المدن فانها تبعا لمحذوراتها الدينية والاجتماعية والثقافية، يمكن ان تحد من تحرك المرأة في فضائها العام، أو تجعله مقيدا باشتراطات عديدة، ليس اقلها رقابة الرجل على كل حركة لها. تداولت مواقع اخبارية عديدة، ما صرحت به مديرية مرور كربلاء، عن منحها أكثر من ثلاثة آلاف إجازة سوق للنساء في المحافظة، في مؤشر على تطور المجتمع واحترامه للمرأة ودورها، وهو رقم قياسي مقارنة مع باقي المحافظات، وهو ايضا اثبات أن المرأة الكربلائية أثبتت قدرتها على التحرر من القيود الاجتماعية والنفسية، على حد تعبير ذلك التصريح. ما الذي يعنيه ذلك؟ في التصورات التي قدمتها السوسيولوجيا الاجتماعية، حول التفاعلات الاجتماعية في المدن، لاحظت تلك التصورات، ان المدن الصغيرة، والتي تكون على اطراف المركز (العاصمة) تمتلك ثقافة قامعة تجاه سكانها، وتستحضر تلك المدن في الاذهان، ايحاءات بالضحالة الثقافية والكبت الاجتماعي. في حين يمثل المركز أو العاصمة كل ما من شأنه اثراء الحياة الثقافية، والتملص من القيود القامعة، التي توفرها المساحات الكبيرة للعواصم. في اعمال ريموند وليامز، صاحب كتاب (الكلمات المفاتيح) يذكر عددا من الشروط الحضرية المطلوب توفرها لانبثاق الحداثة في احشاء الثقافة التقليدية، من هذه الشروط: اندحار العلاقات الطبيعية التي تقترن في اذهاننا مع الحياة الريفية، اكتشاف الذات للإنسان تحت ظروف العزلة (التي توفرها المدينة) غموض حياة المدينة واستحالة سبر غورها، الحيوية والتنوع غير المحدود والحراك السريع الذي تمثله المدينة. منذ العام 2003 يمكننا ان نرصد وضعان يسلطان الضوء على الثقافة الجديدة لمدينة كربلاء، تشترك فيهما مع كثير من المدن في العالم العربي، وهما وضعان بغض النظر عن مدى الايجابيات أو السلبيات التي يحتملان عليها: الاول: الزعزعة الاجتماعية التي يحدثها الوعي المديني، وتشمل هذه حالات الاختلال في السلوك القيمي، والاغتراب الفردي والاجتماعي، وتفتت الوعي الحضري. الثاني: انبثاق امكانيات متحررة في السلوك الفكري والاجتماعي، وهي تشمل العمل الثوري الجماعي، والابداع الفني، والتمرد، والتسامح مع ما هو مستهجن اجتماعيا. اعود الى التساؤل الذي طرحته قبل قليل حول معنى هذه الزيادة في عدد النساء اللواتي يمتلكن اجازات للسوق في مدينة مثل كربلاء. ترتبط قيادة السيارة وخاصة بالنسبة للمرأة، بالحرية الشخصية أولا، وبالثقة في النفس ثانيا. من المعروف ان المرأة في المجتمعات الشيعية، تمتلك هامشا واسعا من حرياتها الشخصية، ولعل ذلك كثيرا ما يتبدى في مواسم الزيارات والشعائر التي تكون كربلاء في القلب منها، وهو نوع من التفاعل الاجتماعي الذي يخلق حركة متموجة في كافة الاتجاهات، على الاقل مع ثقافات متعددة ومتنوعة، لا تقتصر على الثقافة المحلية لسكان العراق، بل تشمل ثقافات اخرى، عربية واقليمية، وحتى ابعد من ذلك. يضاف الى هذا الحراك الاجتماعي، ما أحدثه الوافدون الجدد الى مدينة كربلاء، نتيجة هجرات او تهجير اعقب العام 2003، وما حمله هؤلاء الوافدون الجدد من انساق ثقافية الى المدينة، ساهمت الى حد ما في كسر بعض الانماط في الثقافة والسلوك. وماذا يعني ذلك ايضا؟ اذا كانت المرأة يمكن لها ان تقود سيارة وتتفوق على الرجل من حيث الالتزام بالقوانين والقواعد المرورية، هل يمكن لها ان تكون قائدة وهذه المرة للمجتمع من بوابة المشاركة السياسية الفاعلة، كأن تكون محافظ مدينة أو رئيس مجلس للمحافظة فيها؟، وهل يتقبل المجتمع ذلك؟. لا يمكن تصور تلك الفرضية بسهولة، نتيجة للهيمنة الذكورية على مقدرات الفعل السياسي ومساحته، لكن تلك الفرضية ليست مستحيلة، فالخطوة الاولى نحو التغيير، هي ثلاثة الاف بداية، يمكن أن تصل يوما ما، وخاصة في كربلاء، الى كسر هذا النسق السياسي، الذي يحتله الرجال العابسون والمتجهمون، لتترجل إمرأة باسمة من سيارتها، وتتوجه الى مكتبها (محافظة) أو (رئيسة) مجلس محافظة. |