اللهم احمِ صحافتنا الورقية من الاختفاء
رضي السماك
أنا واحدٌ من جيل المثقفين، الذي تربى وترعرع وتفتحت مداركه السياسية الطرية منذ نعومة أظفاره على الصحافة الورقية، ومازلت أعشقها عشقاً جنونيّاً ومدمناً عليها حتى النخاع، حتى أن عشقي لها في صباي سبّب لي عادة إدمانية مُستديمة، ظلت ملازمة لي إلى يومنا هذا، ففي أواخر ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، كنتُ أحرص على شراء وقراءة الصحف والمجلات المصرية التي كانت تحظى برواج كبير حتى رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، أتذكّر أن واحدةً منها، ألا وهي مجلة «المصوّر» كانت تنبعث منها رائحة حبر طباعة نفّاذة أشبه برائحة «الكيروسين»، ومع ذلك لا أعرف لماذا كُنتُ أجدُ مُتعة غريبة مُدهشة في تشمُّم هذه الرائحة، قبل تصفحي الأولي السريع لكل عدد جديد منها؛ بل ولا تستطيب لي قراءته إلا بُعيد ممارسة هذه العادة لثوانٍ، فكأنَّي بذلك واحد من مدمني شم البترول أو الغاز، وربما بسببها تحديداً وجدتني لا شعوريّاً غير قادر على التخلص منها إلى يومنا هذا، حالما أقتني أية صحيفة أو مجلة أو كتاب جديد حتى لو كان أيٌّ منها مطبوعاً بأحدث الورق الفاخر، وأجود أحبار الطباعة العصرية النظيفة، وخالٍ من أية رائحة.
ولذلك ومنذ سنوات قليلة فإني كلما قرأت تقريراً إخباريّاً أو مقالاً أو دراسةً عن قرب أُفول عصر الصحافة الورقية، أو إغلاق صحيفة ورقية، وتحولها إلى إلكترونية بما يُبشّرُ بالحُلول التدريجي لعصرٍ تتسيَّد فيه الصحافة الإلكترونية وحدها، وضعتُ يدي على قلبي ضجِراً من ذلك، وانتابتني على الفور نوبةٌ جديدةٌ من القلق الشديد، مُبتهلاً إلى المولى عز وجل ألا أشهد هذا اليوم الذي تختفي فيه نهائيّاً الصحافةُ الورقيةُ، فيما تبقى لي من عمر أطال الله أعمارنا جميعاً.
والسؤال: هل سيتمكنُ حقّاً عصر الصحافة والكتب الإلكترونية من إزالة عصر الصحافة والكتب الورقية، ويحلُّ محله ويتربعُ، بلا منازع، على عرشه بعد عصر عمّرت خلاله الطباعة الورقية زهاء خمسة قرون ونيّف؟ شخصيّاً، وعلى رغم هذه الخشية التي تراودني بين الفينة والأخرى، فإنه يصعب عليّ تصور أننا على وشك الدخول إلى عصر، حتى لو اختفت فيه الصحف الورقية برمَّتها أو بمُعظمها، أن تختفي بموازاتها الطباعة الورقية نهائيّاً بمختلف أنواع إصداراتها، وبضمنها الكتب والمراجع والموسوعات.
ولئن تخيلنا أسواق العالم بلا كتب ومجلات ورقية تزخر بها المكتبات التجارية، فهل يمكن تخيله بلا «مكتبات عامة» طالما ألِف المثقفون، على مدى عقود طويلة، أو حتى بضعة قرون، رونقها الأخّاذ، وهي مصفوفة على رفوفها من أرضياتها إلى سقوفها بأحجام وألوان زاهية متعددة؟ ولعل ما ينطبق على «المكتبات العامة» ينسحب على المكتبات الخاصة المنزلية، فهل يمكن تخيّل بيت بلا مكتبة منزلية، سواء بغرض «الديكور» أو التباهي بالثقافة الكاذبة، أو بغرض النهل الحقيقي من المعرفة، ومن ثم الاكتفاء بأجهزة الكمبيوتر، المرشحة هي الأخرى للاختفاء تدريجيّاً لصالح أجهزة الاتصالات الحديثة الأصغر حجماً؟ وإذا ما نحّينا المدارس وسائر المؤسسات التعليمية جانباً، وافترضنا استغناءها عن كل ما هو مطبوع ورقي في مصادر التعلم والبحث العلمي، فماذا يا تُرى عن مجالس تلاوة القرآن الكريم، والأدعية في المساجد والجوامع والمآتم والمجالس الرمضانية، كعادات دينيَّة عريقة متأصلة محبذة، مازال يسري عشقها في عروقنا ودمائنا؟ هل من المعقول أن نشهد عصراً يُستغنى فيه عن طباعاتها الورقية، ويُكتفى بترتيلها من النسخ الإلكترونية في أجهزة الاتصالات الحديثة؟ والحال مماثل فيما يتعلق بسائر الكتب المقدسة، كالإنجيل في الكنائس، أو مختلف كتب الديانات الأخرى في أماكن عباداتها.
وفي تقديري الشخصي، من الصعوبة بمكان التكهن بمآل مستقبل الطباعة الورقية برمتها، قبل مرور ما يُقارب ربع قرن من الآن على الأقل، وإذا كانت الصحافة الورقية مُرشحةً للإغلاق، فلن يتم ذلك بين عشيةٍ وضُحاها في توقيت واحد، ففي سياق المنافسة التجارية العادلة، فإن ما يُعرف بالصحافة الورقية الصفراء أو الموالية في العالم، هي الأكثر عرضة للاختفاء، وبخاصة ذات رأس المال الوهمي، والممول تكاليف صدورها من تحت الطاولة من قِبل أوساط نافذة في أية دولة شمولية، ولن ينفعها بالتالي تحولها إلى الإصدار الإلكتروني لتقليل النفقات، مادامت شعبيتها المحدودة لن تتوسع. لكن هذا لا ينفي عدم مواجهة الصحافة المستقلة والملتزمة المحاصرة والمعتمدة رأسماليّاً على ذاتها في الدول غير الديمقراطية تحدي الإغلاق أيضاً، سواء لأسباب تجارية، وخاصة في ظل تراجع الإعلانات، وبروز أشكال لا حصر لها كل يوم من المنافسة للإعلانات الصحافية مع التطور الهائل لثورة وسائل الاتصال، أو لأسباب سياسية، وهذه ستظل تواجهها الصحافة الملتزمة حتى إذا ما تحولت إلى الإصدار الالكتروني في ظل الرقابة المشددة.
حفظ الله صحافتنا الورقية العربية من الانقراض ولو إلى بَعد حين.
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 5215 - السبت 17 ديسمبر 2016م