خطابات بوش عن الديمقراطية... و«إسرائيل»
يواصل الرئيس الأميركي جورج بوش إلقاء الخطب وإطلاق التصريحات في جولته «الشرق الأوسطية». الخطب والتصريحات اشتملت على كل التناقضات التي تمر بها عادة كل إدارة أميركية تستعد للمغادرة. فالكلام أقرب إلى الوداع لأنه يحاول التركيز على الايجابيات والنجاحات وما يسميه بوش بالثمار التي أنتجتها سياسة واشنطن في السنوات السبع الماضية. والكلام أيضا يتجنب التطرق إلى الإخفاقات والكوارث والفوضى والتوترات التي أسستها استراتيجية اتسمت بالتشاوف والتشنج والاحتقار وتقنعت بايديولوجية ساذجة في تصوراتها لماضي المنطقة وحاضرها ومستقبلها.
هذه التناقضات لا تحتاج إلى ذكاء للتعرف على آلياتها ومواصفاتها في اعتبار أن نتائجها ليست سرية وهي باتت معروفة لكل المراقبين وواضحة في نماذجها التدميرية والتقويضية في أفغانستان (باكستان أيضا) والعراق وفلسطين ولبنان.
الرئيس بوش حاول جهده لإخفاء العناصر السلبية (الكارثية) بالتركيز على إيجابيات يرى أنها «أميركية» الصنع. بكلام أوضح أصر بوش على ربط كل المتغيرات الجزئية التي ظهرت في بعض البلدان المغربية والمشرقية والخليجية (انتخابات، إصلاحات، تمكين المرأة، حريات صحافية) بالسياسة الأميركية والضغوط التي مارستها واشنطن على الأنظمة. أي أن كل تلك الإشارات العربية والمحلية والإقليمية جاءت بناء على رغبات أميركية وتحت سقف توجيهات أشرفت واشنطن على إدارتها أو رعايتها من بعيد أو قريب.
هذا النوع من المصادرة الأميركية لبعض التحولات الجزئية والمتغيرات السياسية المحدودة تعتبر خطوة ناقصة وتحتاج فعلا إلى أدلة دامغة لتأكيدها. فهناك تجارب أشار إليها بوش في خطاباته وتصريحاته قديمة وتسبق وصول حزبه إلى «البيت الأبيض». وهناك خطوات اتخذت بناء على قناعات محلية ورغبات سلطات وجدت في تصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع مسألة تاريخية تلبي حاجات وطنية واجتماعية وتنموية.
إصرار بوش على مصادرة كل الايجابيات العربية، وحرصه على دمغها بخاتم أميركي، وتأكيده على أنها ثمرات من نتاج سياسة إدارته كلها إشارات تدل على نزعة غير واقعية تريد الإيحاء للجمهور الأميركي (الناخب ودافع الضرائب) أن واشنطن في عهد تيار «المحافظين الجدد» حققت إنجازات ديمقراطية بسرعة غير متوقعة ولم يكن بالإمكان التوصل إليها لولا الضغوط التي مارستها على الدول والعواصم العربية.
بوش يعرف أن كلامه ليس دقيقا ويدرك تماما أن تلك الايجابيات التي يتحدث عنها كان بامكانها ان تكون أفضل لولا التدخلات الأميركية السلبية وتلك السياسة التقويضية التي اتبعتها في المنطقة وأدت إلى نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار ومد شبكات الإرهاب من «جبال تورا بورا» إلى باكستان وصولا إلى لبنان والصومال والجزائر والمغرب وموريتانيا.
كلام بوش الفضفاض ليس مستغربا، فهو أصلا ليس موجها إلى أبناء المنطقة بقدر ما يستهدف مخاطبة الجمهور الأميركي في فترة تشهد فيها الولايات المتحدة معركة انتخابية حامية للفوز بالرئاسة. فالكلام عن إنجازات وانتصارات وإيجابيات وثمار هو بضاعة يراد إعادة تصديرها إلى الولايات المتحدة بقصد تسويقها لجمهور محلي لا يتابع بدقة مجرى الحوادث الدولية خارج حدود الوطن الأم. والرئيس بوش حين يخاطب أبناء المنطقة يستهدف في الواقع إرسال إشارات إلى الداخل الأميركي بغية الرد على تلك الانتقادات التي تصدر تباعا من الحزب الديمقراطي المنافس وأحيانا من الحزب الجمهوري الموالي. فهو يريد القول إن تلك المليارات التي أنفقت لم تقتصر على الحروب وتمويل الجيوش وإنما استثمرت أيضا في مجالات الديمقراطية وحقول حقوق الإنسان وتمكين المرأة... وهاهي النتائج بدأت تثمر وأخذت تعطي مفعولها.
قفازات ايديولوجية
خطابات بوش في جولته العربية الخليجية هي مجرد قفازات ايديولوجية للتغطية على سلسلة إخفاقات ظهرت سياسيا بوضوح في مناطق مختلفة وتحديدا في تلك الميادين التي اجتاحتها قواته جوا وبرا وبحرا. فالخطابات موجهة إلى الداخل الأميركي وهي تريد تحويل الأنظار وشد الانتباه عن الكوارث إلى ما يراه ثمار السياسة الإيجابية التي أشرفت إدارته على صنعها وتوجيهها. وحتى يعطي صدقية لكلامه وعد أبناء المنطقة بالعودة إلى زيارتها ثانية في مايو/ أيار المقبل بذريعة التأكد من سلامة المسار الديمقراطي وتطوره.
لماذا يريد بوش العودة بعد أربعة أشهر إلى المنطقة في وقت تكون الولايات المتحدة دخلت الشوط ما قبل الأخير من المعركة الرئاسية الانتخابية؟
الجواب الوحيد المقنع هو أنه يريد المشاركة في احتفالات تأسيس الكيان الإسرائيلي (أو الدولة اليهودية كما يقول). ففي 14 مايو 1948 أصدر آنذاك وزير الخارجية البريطاني قرار إلغاء «الانتداب» على فلسطين بناء على قرار الأمم المتحدة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 الذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية.
عودة بوش إلى المنطقة محددة الأهداف ومرتبطة بمناسبة نكبة فلسطين وإعلان قيام دولة واحدة فقط على حساب أهل البلد. فالاحتفال إذا هو بمناسبة مرور 60 عاما على تأسيس النكبة وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه. ومثل هذه المناسبة يرى فيها بوش فرصة فريدة يمكن استغلالها لتحسين سمعة إدارته وتطوير أجهزة حزبه الذي يخوض معركة بقاء في السلطة. وتوظيف نكبة الشعب الفلسطيني في مناسبة تأسيس الدولة العبرية تعتبر من عادات الرؤساء في البيت الأبيض لأنها تشكل فائدة إعلامية محلية تغطي كل الأخطاء والخطايا وترفع نسبة التصويت لمصلحة الحزب الحاكم (الجمهوري أو الديمقراطي).
خطابات بوش التي أتحف بها المنطقة في جولته التي شملت بعض دول «الشرق الأوسط» هي لتقطيع الوقت والاستهلاك المحلي وتستهدف في النهاية مخاطبة الجمهور الأميركي ودعوته إلى تجديد ثقته بإدارة أنفقت المليارات لتغطية «حرب عادلة» بدأت تثمر بسرعة وقبل موعدها الطبيعي المفترض. وهذا النوع من الكلام الذي يعتمد على تزوير الحقائق والتلاعب بالأرقام والتواريخ يريد توظيف كوارث المنطقة في صناديق الاقتراع... ومن ثم إعادة توظيف النتائج في العودة إلى المنطقة للاحتفال بذكرى النكبة التي تتصادف مع إعلان تأسيس «إسرائيل» على أرض فلسطين.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1956 - الإثنين 14 يناير 2008م الموافق 05 محرم 1429هـ