المنطقة العربية وتحديات نموذج «العرقنة»
ترحيب حكومة «أقليم كردستان» بمشروع خطة تقسيم العراق الذي أقرّه «مجلس الشيوخ» الأميركي بغالبية الثلثين جاء يخالف كلّ ردود الفعل السلبية التي صدرت عن جهات عراقية وعربية وجوارية ودولية. والمخالفة التي أطلقتها حكومة «كردستان» أعتمدت على قاعدتين: الأولى دستور العراق الذي صاغه الاحتلال بعد الغزو الذي تشير بعض فقراته ومواده إلى «فيديرالية المناطق والأقاليم». والثاني الوقائع الميدانية التي قام الاحتلال بترسيم حدودها الطائفية والمناطقية والمذهبية في السنوات الأربع الماضية.
الترحيب الكردي بمشروع التقسيم جاء بناء على وقائع دستورية وميدانية وليس مجرد فرضيات نظرية. فالأقليم الكردي الذي يتمتع بهامش من الحكم الذاتي منذ العام 1991 هو نتاج أمر واقع ميداني جرى تعميمه قسرا على مختلف المناطق بعد احتلال العراق في العام 2003.
«العرقنة» الآنَ تحوّلت إلى «أمر واقع» يتسلّح بمواد دستورية ولم تعد مجرد فكرة مطروحة للتطبيق. فالتقسيم الميداني حصل واقعيا وإعادة توحيد العراق تحتاج فعلا إلى معركة سياسية تقودها «نخبة» غير طائفية ومذهبية. ومثل هذه النخبة تبدو ضعيفة في ظروف العراق الحالية، وهي منبوذة أو مطاردة من قبل جهات مختلفة.
«الأمر الواقع» يتطلب قراءة واقعية للسياسة العراقية في المرحلة المقبلة لمنع امتداد استراتيجية «العرقنة» الأميركية إلى المحيط الجغرافي ودول الجوار. و»العرقنة» التي تأسست بناء على تصورات أيديولوجية اعتمدها تيار «المحافظين الجدد» منذ العام 2001 تشكّل «كلمة سر» المشروع الأميركي في المنطقة. فبعد الاحتلال أعلنت واشنطن عن نيتها في تحويل العراق إلى «نموذج يحتذى» لشعوب «الشرق الأوسط» ودولها. وجرى النقاش انذاك عن المعنى المقصود من «النموذج العراقي». فقال البعض «ديمقراطية»، والبعض الآخر «استقرار وأمن وازدهار ورخاء». وتبين لاحقا أنّ المقصود في «النموذج» هو تشطير بلاد الرافدين إلى دويلات طائفية ومذهبية منزوية في أقاليم ومحافظات جغرافية.
«النموذج» الذي وعد به الرئيس جورج بوش المنطقة قبل أربع سنوات يبدو أنه بات في أشواطه الأخيرة للاكتمال ولم يعد أمامه سوى لمسات قليلة للإعلان عنه رسميا.
الإعلان الرسمي غير مهم شكليا بقدر ما أنّ الواقع الميداني الذي أنتجه الاحتلال يرسم سياسيا حدود دويلات باتت موجودة على الأرض حتى لو انكر قادتها الأمر وأطلقوا تصريحات منافقة ترفض مشروع مجلس الشيوخ وتستنكره. فالواقع أصدق أنباء من الكتب أو الكذب.
يبقى السؤال: هل تحتذي المنطقة العربية/ الإسلامية ذاك «النموذج» الأميركي أو تقاومه وترد عليه وتعمل على عدم انتشاره؟
أجوبة كثيرة يمكن توقعها. وهناك ما يشبه الإجماع (اللفظي على الأقل) على رفض الصيغة العراقية بصفتها تشكّل بداية انهيار «البيت العربي» وتقويضه أهليا وخصوصا في المشرق العربي الذي تتكاثر فيه الطوائف والمذاهب والملل والنحل.
هذا الرفض يحتاج إلى صدق تعززه سياسة ميدانية تؤكّد على وجود قوة ممانعة تتصدّى لمشروعات تقسيمية على غرار العرقنة (النموذج الأميركي). فهل المنطقة مستعدة فعلا إلى مثل هذه المنازلة الكبرى؟
القياس التاريخي
بالعودة إلى التاريخ تبدو المؤشرات سلبية. فمنذ انهيار السلطنة العثمانية طرحت الكثير من المشروعات الوحدوية وكلّها تراجعت فكرة بعد فكرة وصولا إلى تقسيم المنطقة إلى دول قطرية (كيانية) ضائعة في هويتها الوطنية أو القومية أو الدينية. وحتى الآنَ لا تزال تلك الدول تخوض غمار معركة الهوية من دون أنْ تبدو في الآفق المنظور «نماذج جاهزة» أو واقعية على غرار ذاك «النموذج الأميركي» الذي أسسه الاحتلال واقعيا في العراق.
التاريخ العربي/ الإسلامي يشير إلى سلسلة تراجعات نظرية في فكرة الوحدة وإعادة التوحيد. فبعد انهيار السلطنة طرحت بحياء فكرة «الخلافة الإسلامية» وتم التراجع عنها ومراجعتها إلى صيغة أكثر واقعية فطرحت فكرة «الرابطة الإسلامية» ثم «الجامعة الإسلامية». وحين فشلت تلك الأفكار في تحقيق المشروعات السياسية (الكونفيديرالية أو الفيديرالية) طرحت فكرة «الرابطة العربية» ثم «الاتحاد العربي»ثم «المستطيل العربي» ثم «الهلال العربي» وأخيرا تم التوافق في نهاية الحرب العالمية الثانية على مشروع «جامعة الدول العربية». والآنَ وبعد مرور 60 عاما على فكرة «الجامعة العربية» بدأت تطرح نظريات واقعية تشطيرية للمؤسسات العربية بعد أن عجزت «الجامعة» الانتقال من طور «الرابطة» إلى طور «الاتحاد».
هذه الوقائع التاريخية تثير فعلا المخاوف وتعزز احتمال التراجع من محطة «الجامعة» إلى محطات أدنى من ما هو قائم الآنَ على مستوى دول الكيانات والأقطار الوطنية. ونموذج «العرقنة» الذي أبتكرت آلياته الواقعية إدارة الاحتلال الأميركي ليس مجرد نظريات مطروحة على الورق وإنما بضاعة (سلعة) قابلة للتصدير في حال لم تتعامل قوى الممانعة بعقلانية وواقعية مع سياسة التشطير التي أعتمدت في بلاد الرافدين.
الرفض اللفظي لا يفيد. والاستنكار والاستهجان والدعوات إلى التظاهر لن تؤثر في واقع أخذ يتزعزع بفعل ضربات عسكرية خارجية أو ضغوط سياسية واقتصادية تمارسها الدول الكبرى لمحاصرة دول تفتقد إلى شرعية دستورية أو قاعدة أهلية عندها الاستعداد للتضحية دفاعا عن أنظمة قطرية أو كيانية تمارس الاستبداد والظلم ضد شعوبها.
مشروع «العرقنة» ليس مجرد فكرة أقرّها مجلس الشيوخ الأميركي وإنما بداية تصوّر يعكس رؤى أيديولوجية تتعامل مع المنطقة العربية/ الإسلامية بصفتها مجرد ساحات مفتوحة للاقتتال الأهلي وتجاذب الأقليات مع الأكثريات. وهذه النظرة الاستعلائية/ الفوقية ليست جديدة بقدر ماهي نتاج مجموع استطلاعات « استشراقية» تراكمت معرفيا منذ بدايات القرن الثامن عشر. فأفكار التقسيم قديمة جدا وأقدم من كلّ طروحات التوحيد الإسلامي المعاصرة أو مشروعات الوحدة العربية التي تبلورت بعد تراجع النماذج الإسلامية (الرابطة والجامعة) عن مفهوم الخلافة.
تقسيم المنطقة العربية/ الإسلامية استراتيجية قديمة وأسبق على مشروعات التجزئة التي توافقت عليها فرنسا و بريطانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى. فالسلطنة العثمانية تعرّضت إلى حملات عسكرية بحرية وبرية في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان وثم المغرب العربي ومصر وصولا إلى المشرق العربي لمدة تناهز القرنين من الحروب المتواصلة حتى نجحت أخيرا في غزو بلاد الشام واحتلال القدس والإعلان عن «وعد بلفور» في فلسطين.
قراءة التاريخ تفيد كثيرا لإنعاش الذاكرة الجمعية؛ لأنّها تتعامل مع الوقائع الجارية وكما حصلت فعليا محطة بعد أخرى، ولا تذهب بعيدا في تحليل النظريات والعواطف والمشاعر. فالوقائع تؤكد ميدانيا أنّ المنطقة كانت تتراجع في خطوط مشروعاتها الوحدوية. فبعد كلّ محطة كانت الأفكار تنتكس وتعود «النخبة» للرضوخ للأمر الواقع وتقبل ما كانت ترفضه في محطة سابقة.
التجربة التاريخية لمشروعات النخب العربية والإسلامية الوحدوية منذ أكثر من قرن لا تبشر بالخير. فالنخبة كانت تتراجع خطوة خطوة ومحطة بعد أخرى إلى أن وصلت المنطقة إلى ماهي عليه الآنَ من تقسيمات كيانية (قطرية) تحت سقف «جامعة عربية». وقياسا على تلك التجربة الواقعية التي اتسمت تاريخيا بالنكوص السياسي الدائم يمكن توقع الكثير من الأجوبة عن احتمال تحوّل «العرقنة» إلى نموذج يحتذى في المنطقة والمحيط الجغرافي ودول الجوار.
ردود الفعل المناهضة لخطة «مجلس الشيوخ» لا تعني الكثير ميدانيا. فالرفض اللفظي لا يلغي الوقائع و»الأمر الواقع»، ما دام المشروع الأميركي حقق أغراضه التقويضية وأهدافه التشطيرية في بلاد الرافدين.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1851 - الإثنين 01 أكتوبر 2007م الموافق 19 رمضان 1428هـ