إشكالية الفكر العربي في القرن التاسع عشر
ثلاثة أسئلة تتحكم بالموضوع الزمان والمكان وصولا إلى الأزمة. نبدأ بالسؤال الأول: لماذا القرن التاسع عشر.
إنه عصر التحولات الكبرى: أوروبا تصعد والسلطنة العثمانية تهبط. بدء انتقال أوروبا من التوازن الدولي إلى الغلبة. تراجع السلطنة عن موقعها القيادي. بدء اكتشاف التقدم الأوروبي.
بدء التفكير في اللحاق بأوروبا طرح إشكالية التقدم والقلق على الأمة أيضا. وترافق الأمر مع الضعف الإداري والفشل العسكري في الجبهات. وعدم قدرة الجيش العثماني (الانكشاري) على التصدي طرح أسئلة مباشرة وهز رأس السلطنة، وتحديدا ظهور ذاك الخلل في الميزان العسكري ما شجع السلاطين على التفكير بتطوير مصادر القوة. وهنا بدأت المشكلة: كيف؟
انتقال الإشكالية من سؤال «لماذا» نجح الغرب في التقدم إلى «كيف» نلحق بالتقدم الأوروبي، طرح على الدولة (السلطنة) التفكير بوضع الخطط والبرامج. من يضع تلك المشروعات فتح الباب على التفكير بتأسيس إدارة بديلة تفهم لغة العصر وأدواته.
البحث عن مخارج للأزمة جعل السلطنة تفكر بالمداخل. ما هو المدخل الواجب اتباعه لإنقاذ الأمة؟
الجواب عن السؤال فرضته الحاجة. فآنذاك كانت السلطنة تعاني من هجمات على الجبهات العسكرية في أوروبا الشرقية تقودها روسيا القيصرية. وأدى الخوف من انهيار النفوذ العثماني في أوروبا الشرقية إلى اعطاء أولوية للجيش. فالجيش هو الحل. وعلى هذا اتخذ السلاطين سلسلة قرارات فوقية ركزت على فكرة تحديث المؤسسة العسكرية وتأمين كل المتطلبات والمستلزمات الضرورية لتنفيذ مهمة الدفاع عن الحدود. تحديث القوة أدخل السلطنة في سياسة عسكرة الاقتصاد التي ساعدت على تنمية القدرات السياسية للجيش ورفعت في الآن من نسبة تدخله في الحياة المدنية للناس الأمر الذي مهد الطريق لحصول مواجهات أهلية بين نخبة عسكرية وشبكات المجتمع التقليدي.
نأتي إلى السؤال الثاني: لماذا بلاد الشام؟
بلاد الشام تشكل جغرافيا ذاك الفاصل/ الجامع السياسي بين قوة تركيا العثمانية وقوة مصر العربية.
هذا إقليميا. ودوليا تمثل بلاد الشام نقطة وصل وفصل بين خطوط التجارة القديمة التي انكمشت بعد الاكتشافات الجغرافية والدوران حول إفريقيا في نهاية القرن الخامس عشر. وبلاد الشام أيضا منطقة خصبة بالأديان والطوائف والمذاهب وتفتقر إلى ذاك التماسك العمراني/ الاجتماعي الذي يساعد على تأسيس دولة مركزية. آنذاك كانت بلاد الشام موزعة على ولايات عثمانية تملك هامشا من الاستقلال الذاتي الأمر الذي أفسح المجال لنمو خلافات بين أمراء المناطق والطوائف. وهذه الرخاوة شجعت قناصل أوروبا على التدخل فبدأت تتوسع حركات التبشير والإرساليات وأخذت تؤسس المدارس لتعليم نخبة وتأهيلها في جامعات الغرب مستفيدة من معاهدة «الامتيازات الأجنبية» التي وقعتها السلطنة مع فرنسا في القرن 16.
في تلك الفترة اشتهرت الكثير من المؤسسات التربوية في الفاتيكان وباريس وفروعها في المشرق في تخريج دفعات من المتعلمين وفق برامج وتوجيهات لا تتناسب مع الثقافة الإسلامية التقليدية (المدرسة المارونية في القرون 16 و17 و18).
هذه الأنشطة التي بدأت دينية وتربوية وثقافية أسست قواعد الاختراق السياسي في القرن التاسع عشر وشكلت نقاط ارتكاز للبدء في اطلاق مؤسسات ومشروعات صحافية وهيئات وأندية (الجمعية العلمية السورية في بيروت في العام 1847 والجمعية الأدبية في طرابلس في العام 1850) تطالب على حياء بتقليد النموذج الأوروبي واعتماده منطلقا للتحديث والتطوير والإصلاح.
تركزت الأنشطة الأوروبية بداية في المناطق المسيحية في لبنان وفلسطين وسورية وأخذت الأديرة تلعب دورها في مد شبكة من العلاقات التجارية (وكلاء شركات) وتشجيع المتخرجين على تعلم اللغات الأوروبية (مدرسة عينطورة ومدرسة عين ورقة). وهذا التركيز ساهم لاحقا في ترسيم حدود جديدة لعلاقات الطوائف والمذاهب في إطار منظومة «الملل والنحل» التي كانت تعتمدها السلطنة العثمانية في تنظيم صلاتها مع الجماعات الأهلية.
نصل إلى السؤال الثالث: إشكاليات الفكر العربي
اضطراب الفكر العربي (المشرقي تحديدا) لم يحصل فجأة ومن فراغ بل تأسس تاريخيا على مجموعة مفارقات أملتها جغرافية بلاد الشام وموقعها وتنوعها العمراني وتوزعها الطائفي والمذهبي. آنذاك في القرن التاسع عشر عرفت المنطقة الإسلامية الكثير من التحديات الدولية تعاملت معها القوى الإقليمية المركزية (تركيا ومصر تحديدا) بأساليب متشابهة تقريبا.
مصر في عهد الباشا محمد علي كانت السباقة. فالباشا أقدم على الاستيلاء على السلطة بتكليف من السلطنة ثم انقلب عليها بعد أن نفذ مجزرة القلعة في القاهرة ضد بقايا أمراء المماليك. مذبحة المماليك فتحت الطريق أمام دولة محمد علي بالنمو والتطور ضمن سياق عسكرة الاقتصاد. فالباشا اتبع مجموعة خطوط للتحديث منها: تأسيس قواعد للدولة تنافس الشبكات الأهلية وموقع الأزهر العلمي. إرسال بعثات للدراسة في الخارج أشهرها كانت البعثة التي ترأسها رفاعة الطهطاوي. إقامة علاقات مع مؤسسات أوروبية مدنية تملك نظريات حديثة في تطوير علاقات الاجتماع والاقتصاد (حركة سان سيمون الاشتراكية المثالية). إعادة توظيف المتخرجين من الجامعات الأوروبية في مواقع الدولة ومؤسساتها التصنيعية والإدارية والتربوبية. تأهيل الجيش المصري وتجهيزه بالأسلحة الحديثة ليكون في موقع القوي والقادر على الدفاع وثم الهجوم (أسطول بحري، قوات برية) لتوسيع دائرة نفوذ الدولة في الجزيرة والسودان واليمن والبحر الأحمر. تحسين العلاقات مع أوروبا لكسب الخبرات والخبراء وعدم تعطيل التواصل التقليدي بين مصر والسلطنة العثمانية.
مقابل هذه الخطوات السباقة في دولة محمد علي سارعت السلطنة في عهد السلطان محمود الثاني (توفي 1839) في اتباع السلوك نفسه. محمود الثاني تأثر بتجربة محمد علي وأخذ يكيّف السلطنة وفق النموذج التحديثي المصري. فلجأ إلى عسكرة الاقتصاد وتنفيذ مذبحة ضد جيش الانكشارية، وأرسل بعثات تعليمية إلى جامعات أوروبا واستقدم خبراء لبناء هياكل إدارية للدولة ومصانع حربية لإعادة تأهيل القوات البحرية والبرية.
هذا التطور التحديثي في مصر وتركيا أخاف أوروبا فبدأت الدول تخطط للإيقاع بهما من خلال استغلال نقاط الضعف التي ظهرت على بنية السلطنة في مواجهاتها العسكرية مع روسيا القيصرية. وأخذت الدول تتحالف مع محمد علي وتشجعه على الاستقلال عن السلطنة. ثم تحالفت مع السلطنة ودعمتها للتخلص من قوة الباشا الإقليمية الصاعدة.
أين حصلت المواجهة التركية - المصرية؟ في بلاد الشام.
حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام قوضت خطط التحديث الفوقي/ العسكري في المنطقة لأنها نقلت الصراع مع أوروبا إلى صراع مع السلطنة على المشرق العربي المزدهر بالطوائف والمذاهب والإرساليات (174 إرسالية أميركية في بلاد الشام).
انتهت الحملة في العام 1840 حين تحالفت دول أوروبا للانقضاض على الأسطول الحربي المصري وتدميره ثم انتقلت إلى ضرب مدن ساحل الشام للضغط على إبراهيم باشا للانسحاب. وجرى ذلك بذريعة الدفاع عن السلطنة. ولكن الفراغ الذي أحدثه الانسحاب المصري رفع من نسبة تدخل الدول الأوروبية في بلاد الشام وشجع القوى الأهلية على الاقتتال فحصلت مجازر رهيبة بين الدروز والموارنة في جبل لبنان.
استغلت أوروبا تلك المواجهات فتدخلت لوضع حد للاقتتال الأهلي وفرضت على السلطنة إجراء إصلاحات جديدة صدرت بتاريخ 1856 وعرفت بخط همايون. وأجبرتها على القبول بنظام وصاية دولية في الجبل اللبناني أطلق عليه «المتصرفية».
المتصرفية تحولت إلى ما يشبه الكانتون الطائفي (حكم ذاتي) بإشراف السلطنة، وفي ظل هذا النظام امتدت الشبكات السياسية والأهلية والأندية الثقافية والمدارس والصحف التي تأسست على معاهد ومراكز الإرساليات في القرنين 17 و18.
ضمن هذه الفضاءات الدولية والتنازع الإقليمي بين تركيا ومصر على زعامة المنطقة والاضطراب الأهلي في جبل لبنان وبلاد الشام أخذت براعم فكر ما يسمى بـ «النهضة العربية» بالنمو وسط أزمة هوية بديلة عن العثمانية وانقسامات طائفية رعتها سابقا منظومة «الملل والنحل» العثمانية وبنت عليها أوروبا مؤسسات حديثة تعيد تأهيل أجيال من المتخرجين في ضوء شبكات تربوية دينية تبشيرية جمعت بين الفكر والسياسة من جهة والفكر والتجارة من جهة أخرى.
اصطدام الحداثة المصرية بالحداثة التركية في النصف الأول من القرن التاسع عشر في بلاد الشام ساهم في توليد حداثات محطمة دينيا وقوميا وطائفيا ومذهبيا في النصف الثاني من القرن المذكور.
الفكر الأوروبي الحديث حين سقط على شبكة عمرانية قديمة (أصول ريفية قروية) أشعل سلسلة حروب تعسكرت في جبهات ايديولوجية (دينية وليست علمانية) غير موحدة في برامجها وسلوكها ورؤاها وتعاملها مع النص ومدى تجانسه مع الواقع. وحين يصبح النص على تضاد مع العمران يتحول الفكر إلى نوع من الايديولوجيا التي تستعير وتترجم وتنقل عن الآخر من دون وعي أو ادراك لأهمية التاريخ والاجتماع والتطور الزمني.
شكل هذا الإسقاط الايديولوجي في القرن التاسع عشر إشكالية تاريخية بين فكرة تتوهم التقدم وواقع متخلف ومنقسم على تشققات أهلية دينية وأقوامية وطائفية ومذهبية وأحيانا عشائرية ومناطقية. وبسبب اجتياف الفكر المعاصر للواقع المتخلف تأسست الكثير من الأوهام الايديولوجية سواء على مستوى الأندية الثقافية أو الهيئات السياسية أو المقالات الصحافية. واختلطت في ضوء هذا التداخل سلسلة مفاهيم لمسألة النهضة أو الوحدة القومية أو أسس التقدم.
على هذا الأساس التاريخي تشكلت قواعد الفكر العربي في القرن التاسع عشر. فظهرت نظريات قومية غير مكتملة في هويتها السياسية وشروطها الاجتماعية، ونظريات إصلاحية غير واضحة في رؤيتها للدولة البديلة أو لعلاقة الدولة بالإسلام. وهذه الإشكالية يمكن قراءة الكثير من فصولها في أدبيات «النخبة الشامية» سواء في كتابات الشدياق (كاثوليكي ماروني اعتنق الإسلام) والبستاني (كاثوليكي ماروني اعتنق المذهب الإنجيلي البروتستنتي) أو الكواكبي لاحقا. وساهمت هذه الإشكاليات في خلخلة أسس الوعي التاريخي وعدم وضوح الرؤية. فالحداثة تحولت إلى جزر طائفية ومذهبية تتجاذبها السياسة. والسياسة وقعت أسيرة التجاذب الأهلي الذي منع الحداثة من التحول إلى قوة اجتماعية قادرة على قيادة التقدم.
@ المقال كلمة ألقيت في جامعة البحرين بتاريخ 16 مايو/ أيار الجاري بدعوة من اللجنة الثقافية في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1715 - الجمعة 18 مايو 2007م الموافق 01 جمادى الأولى 1428هـ