مهزلة أصحاب شهادات الدكتوراه المزيفة!
مع احترامي وتقديري لمن حصلوا على مؤهل الدكتوراه بعرق جبينهم وبكفاحهم وعزيمتهم وعشقهم للمعرفة ومثابرتهم لسنين عديدة في البحث والاضطرار للغربة في أحيان كثيرة من أجل نيل هذا اللقب العلمي، فإنه يحزنني أن أرى التكاثر الغريب لشهادات الدكتوراه حتى بات من حقنا أن نخشى على مكانة هذه الدرجة العلمية بسبب كثرة الذين يحملونها بلا جدارةٍ ولا استحقاق.
يومياً نرى أسماء جديدة تحمل الدكتوراه، ولكن من خلال الاحتكاك معهم تكتشف بسهولة أن من المستبعد جداً أن تكون شهاداتهم العلمية حقيقية ولا تشوبها شائبة؛ لأن المنطق ومستوى التفكير يبتعد ابتعاداً كلياً عن نمط العقل العلمي المنظم المبني على استراتيجيات ومناهج رصينة، لذلك فإنه سرعان ما ينتابك الشك في حقيقة الشهادة التي يمتلكها مثل هؤلاء.
الذين يحملون شهادة الدكتوراه ينتمون لأصنافٍ عديدة، الصنف الأول الذين عملوا لسنين طويلة من المثابرة والجهد لنيل هذا الاستحقاق، وهؤلاء يستحقون أن نرفع قبعاتنا لهم تقديراً واحتراماً، ولكن الصنف الآخر والذي يبدو هو الأوسع حالياً هم الفئة التي تنال شهادات الدكتوراه بطرق ملتوية أو عن طريق التزوير أو عبر دكاكين وأكشاك بيع الشهادات في عدد من الجامعات المعروفة برواج تجارة الشهادات فيها.
بعض من لا يساورني ثمة شك في عدم حصولهم على شهادة الدكتوراه لا يستطيعون تركيب عبارة على أخرى فكيف يمكن أن نصدق أنه مر بكل المراحل الشاقة والصعبة لنيل الدكتوراه، ومنها اجتياز المؤهل الجامعي، ومن ثم ولوج عالم الماجستير وكتابة مشكلة البحث وحاجة البحث وإتقان أدوات القياس والإحصاء والتحليل والربط المنطقي ووضع خطة محكمة، وبالتالي الشروع في مرحلة الدكتوراه وكتابة البحث العلمي وفق منهجيات وأصول ذات قدرٍ عالٍ من الإتقان.
يبدو أن مجتمعنا يضج بعدد غير قليل ممن حصلوا على شهادات الدكتوراه في ظروف غامضة عن طريق المكر والاحتيال والتزوير، لذلك حان الوقت لكشف هذه القضية وينبغي أن يتم التدقيق في ملابسات حصولهم على هذه الشهادات، والتأكد من مصداقية مؤهلاتهم العلمية ومدى استيفائها للاشتراطات الأكاديمية والمدى الزمني الذي استغرقه حصولهم على هذه الشهادات.
هناك من يتوارى عن الأنظار لأيام معدودات ليرجع وشهادة الدكتوراه (بين قوسين) على كتفه. وقبل بضع سنوات نشرت صحيفة أميركية قائمة تحوي آلاف الأسماء لأشخاص يعتقد أنهم حصلوا على شهادات علمية من جامعات أميركية بطريقة غير قانونية (مزورة)، وضمت عشرات الخليجيين.هذا فضلاً عن «وسطاء التزوير» الذين يتقاضون مبالغ كبيرة لقاء جمعهم رأس أحد أصحاب النفوذ في دول الخليج مع أكاديميين متخصصين في صناعة التزوير.
مكمن الخطورة الحقيقية أن أصحاب الشهادات المزورة أصبحوا في مأمن، وأحياناً أصاب بشعور مزيج من الغرابة والسخرية حين أرى بعض من حصلوا على الدكتوراه في ومضة عين يصر إصراراً غريباً على أن تتقدم (الدال) اسمه ما يجعل المرء متيقناً أن ثمة عقدة ما تقف خلف هذا الإصرار.
المطلوب اليوم أن تتضافر جهود جميع الجهات ذات العلاقة بالعمل الأكاديمي في البحرين، وزارة التربية والتعليم ومجلس التعليم العالي وهيئة ضمان جودة التعليم والتدريب واللجنة العليا لتطوير التعليم والمؤسسات الأكاديمية المعنية لفتح هذا الملف بمصراعيه حفاظاً على قيمة شهادة الدكتوراه التي باتت تفقد بريقها وهيبتها بسبب تشدّق بعض ضعاف النفوس الذين باتوا يشغلون مواقع مؤثرة في المجتمع.
القضية قضية مستقبل وطن، لذلك لا يجوز المجاملة فيها حتى لو أثارت جدلاً وصخباً في بعض الأوساط. ومن هذا المنطلق فإن مجلس النواب يجب أن يفتح تحقيقاً برلمانياً موسعاً وحيادياً في هذه القضية الشائكة حفاظاً على سمعة المؤهلات العلمية بناء على كل المعطيات الحالية التي تتطلب الجرأة في فتح الملف دون مواربة.
الشيء بالشيء يُذكر. ففي العام 2006 كتب المفكر العربي فهمي هويدي مقالاً جريئاً عن هذه القضية تحت عنوان «دكتوراه للبيع»... هويدي فتح النار على أصحاب الشهادات المزورة. وأكثر ما أثارني في مقاله فقرة رائعة يقول فيها: «أدري أن ثمة ولعاً شديداً بالألقاب في العالم العربي. وأنه في أزمنة التراجع، وفي العالم الثالث عموماً، لا تقاس قيمة المرء بما يضيفه في مناحي الخير والبناء والمعرفة، ولكنها تقاس بمقدار وجاهته سواء استمدها من مال وفير أو ألقاب كثيرة. فسقراط وأبو حنيفة والعقاد وأحمد أمين، لم يحتاجوا إلى ألقاب لكي يثبتوا حضورهم في التاريخ، لكن من دونهم بكثير، ممن ليست لهم أي بصمة على صفحات التاريخ ولن يكون لهم فيه ذكر، هؤلاء يتعلقون بأهداب الألقاب ولا يرون لأنفسهم حضوراً إلا من خلالها».
ويمضي هويدي ساخراً: «عرفنا آخرين أضافوا اللقب إلى أسمائهم بالمجان فور دخولهم إلى مجال العمل العام، وهم مطمئنون إلى أن أحداً لن يفتش وراءهم ويكشف الانتحال، وهؤلاء كثر أيضاً».
ينبغي أن نكون جميعاً جادين في مكافحة هذه «المهزلة»، حتى لا يبخس جهد الباحثين والمثابرين، وحتى لا ينعم مزورو الشهادات على حساب أمانة العلم والمسئولية تجاه المعرفة. وفي الوقت نفسه لا يصح أيضاً رمي التهم جزافاً ولا شخصنة مثل هذه القضايا، بل المطلوب طرحها بقوة وجرأة وبتجرد حتى نحمي مستقبل المجتمع من شرور «آفات التزوير».
والبداهة تقول: من فرّط بالأمانة العلمية، وحمل لقباًً ليس له، سيفرّط ذات يوم بأي شيء آخر مهما علا شأناً
حيدر محمد
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2991 - الأحد 14 نوفمبر 2010م الموافق 08 ذي الحجة 1431هـ