الفتنة والتطرف المذهبي صِنوَان
الفتنة ذلك السلوك المقيت الذي أقل ما يُقال عنه إنه آفة الأمم التي تنخر في جسد الوطن الواحد، أيا يكن هذا الوطن.
وللفتنة صور متعددة؛ فمنها الوشاية، وإذكاء نار العصبية، وإثارة النعرة الطائفية، وخلق الكراهية والبغضاء، والتحريض على الاختصام والفرقة والشقاق والتناحر بين أفراد المجتمع الواحد.
وهذه الصور مجتمعة نابعة من أسباب تحيط بفاعلها وبالقائم عليها والآمر بها، وأهم هذه الأسباب الحقد الأعمى والهوى والأنا وحب الزعامة والسلطة، إلى غير ذلك.
والمعروف أن حقد المسلم على أخيه المسلم جامع لمساوئ العيوب لأنه ولادة خبث السريرة المتولد إما عن صلب غير طاهر، أو عن بطن مليء بالحرام، وإما عن سوء رعاية أو مرض بالنفس، وإما عن جهل غذته واحتضنته إياد خبيثة.
والفتنة كونها مقيتة ليس من حيث وجهها القبيح أو نتائجها السيئة وحسب، إنما هي فوق هذا وذلك تعد جريمة بشعة وصفها سبحانه وتعالى بأنها أشد من القتل، وأن فاعلها والقائم عليها والآمر بها قتلة، بل هم أكبر من ذلك، فهم إخوان الشياطين عاقبتهم الخزي وسوء المنقلب وشنآن الفاسقين وفقا لما صرح به القرآن الكريم في أكثر من موقع.
ولكن إذا كانت الصور السابق ذكرها منتجعا للفتنة كما قلنا فقد رام للآخرين اليوم أن يؤججوا نار الفتنة بوسائل أخرى أشد فداحة وأكبر مقتا وذلك بتحريك النزعة الطائفية والتطرف المذهبي، حتى باتت الفتنة كما يقول سيدنا الإمام علي (ع) «قد أغدفت جلابيبها وأغشت الأبصال ظلمتها». ولذلك رأى أهل الفكر «أن الفتنة والتطرف المذهبي صِنْوان»، أي وجهان متماثلان كل منهما نظير الآخر.
وهذه الظلمة الحالكة المنبثقة من نار الفتنة أو التطرف المذهبي نجد مصدرها اليوم «بوق» أو «أبواق متفرقة» تعمل على الأغلب لحساب طرف ثالث. قد يكون هذا الطرف لوبي صهيوني أو صليبي متصهين، أو المستعمر، أو السلطة المستبدة التي لا تملك قاعدة شعبية.
وللأسف يتم هذا إما تحت عباءة الدين، أو تحت قبة برلمان، أو باسم مؤسسة حقوقية أو حزب أو حركة سياسية، أو غير ذلك. وهذا ما نجده على أرض الواقع في لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان مثلا.
ولنكن نحن صرحاء صادقين مع أنفسنا بالاعتراف أننا اليوم قد وقعنا فيما وقعت فيه تلك الدول الإسلامية، إذ باتت ساحتنا مليئة اليوم بأولئك المهرجين المفتنين الذين اتخذوا من قبة البرلمان وسيلة، ومن المساجد بوقا، ومن حرية الفكر والرأي فسحة ليملأوا الدنيا صراخا أو يغدقوا الصحف باليراع سموما ليصيبوا به جسد هذا الوطن وليجعلوا كل فرد من شعبه الصالح الأبي حربة في ظهر أخيه المسلم.
ولهذا يحق لنا أن نسأل: ما الفائدة من كل ذلك؟. ومن هو المستفيد؟
الشاتم أم المشتوم؟، أم أن هناك طرفا ثالثا المستفيد من ذلك؟.
إننا لو اطلعنا على قانون العقوبات البحريني لوجدنا فيه ما يحمي هذا الوطن من شرور أولئك المهرجين المفتنين... ولنأخذ منه على سبيل المثال لا الحصر النصوص التالية:
أولا: المادة (172) «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبالغرامة التي لا تجاوز مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من حرض بطريق من طرق العلانية على بغض طائفة من الناس أو الازدراء بها...».
ثانيا: المادة (309) «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة التي لا تجاوز مائة دينار من تعدى بإحدى طرق العلانية على إحدى الملل المعترف بها أو حقر من شعائرها».
ثالثا: المادة (310/2) «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة التي لا تجاوز مائة دينار كل من أهان علنا رمزا أو شخصا يكون موضع تمجيد أو تقديس لدى أهل ملة».
رابعا: المادة (364) «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بالغرامة التي لا تجاوز مائتي دينار كل من أسند إلى غيره بإحدى طرق العلانية واقعة من شأنها أن تجعله محلا للعقاب أو الازدراء... وإذا وقع القذف بطريق النشر في إحدى الصحف أو المطبوعات عد ذلك ظرفا مشددا».
خامسا: المادة (365) «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة التي لا تجاوز مائة دينار من رمى غيره بإحدى طرق العلانية بما يخدش شرفه أو اعتباره دون أن يتضمن ذلك إسناد واقعة معينة... وإذا وقع السب بطريق النشر في إحدى الصحف أو المطبوعات عد ذلك ظرفا مشددا».
فإذا كان الأمر ذلك، فلماذا لا نجد تطبيقا ظاهرا وحقيقيا لتلك النصوص بحق أولئك المفتنين «المهرجين» الذين أناطوا اللثام عن وجهوهم القبيحة.
أنا لا ادري كيف يكون الاتصال التلفوني بحرم وزير، أو تجريف موقع أثري مثلا جريمة تقوم بشأنها الدنيا ولا تقعد، في حين يُخِّيم الصمت حيال ذلك العامل على الفتنة، الذي أماط اللثام عن وجهه ليكشف عن وجه فضٍ غليظ القلب لا يتواءم وكونه ممثلا عن الشعب كل الشعب.
هذا الرجل الذي يُجاهر بالعداء لطائفة هي من أهل الشرف والإيمان بل هي أصل هذا الوطن وجوهره، والذي بات شغله الشاغل اليوم الذم والقذف في رموز هذه الطائفة وإشاعة الأخبار الكاذبة بحقهم أينما حل وأينما وقف دونما رادع يردعه. وكأنما قضايا المسلمين برمتها باتت اليوم في نظره مختزلة في هذه الطائفة، بل هل في نظره تفوق جرائم الصهاينة، وتدنيس المسجد الأقصى، وجراح فلسطين، واغتصاب أراضي المسلمين على يد الصهاينة وحماتهم.
أنا لا أدري حقا لما هذا الصمت عن هذا الرجل وأتباعه، هل هي غفلة؟، أم هي سياسة منظمة؟، أم أن الحصانة البرلمانية هنا هي فوق كل اعتبار ولا حدود لها؟.
إني لعلى يقين أن الحصانة البرلمانية (وفقا لكافة القوانين المرعية) ليست هي فوق كل اعتبار، بل لها حدود تحكمها مصلحة الوطن والمواطن ويقيدها النظام العام والأمن والسلم الاجتماعي.
ولكن أيما يكن من أمر ذلك، فأملنا وطيد في إخواننا هناك من أهل العقل والعلم والحكمة لنلتمس منهم أن يوقفوا ذلك الفالت من عقاله، وأن ينأوا بأنفسهم عنه كي لا يجرِمَنَّهم شنآنه، وأن يعقلوا الخبر إذا سمعوه عقل رعاية لا عقل رواية.
كما التمس من بعض إخوتي هنا أن يحسنوا اختيار خطبائهم في حسينياتهم، وأن يمنعوا كل شتام سَبَّاب الذي لا خلاق له من الفهم سوى الذم والمس بشخصيات لها تاريخها ومكانتها وثقلها.
علي محسن الورقاء
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2607 - الإثنين 26 أكتوبر 2009م الموافق 08 ذي القعدة 1430هـ