ما يجب أن تكون عليه هوية النائب البرلماني
النائب وصف يستمد مركزه القانوني من قواعد وأحكام النيابة (وليست الإنابة)، وهي النيابة التي ينحصر طرفاها في النائب والأصيل، أو في الوكيل والموكل، حسب واقع العلاقة القائمة بين هذين الطرفين ووفق مصدر هذه العلاقة.
والنيابة - بالنسبة إلى المصدر الذي يحدد نطاقها - تكون على الوجه الأغلب إما نيابة قانونية أو قضائية إذا كان القانون أو القاضي هو الذي يحدد هذا النطاق، كنيابة الولي والوصي، والقيِّم، والحارس القضائي، والفضولي، والدائن الذي يستعمل حق المدين. وإما أن تكون نيابةً اتفاقية إذا كان الاتفاق هو الذي يتولى تحديد نطاقها، ومنها ما يطلق عليها «النيابة في التعاقد» التي أشار إليها القانون المدني في المادة رقم (60) وما بعدها.
والنيابة عندما يكون مصدرها الاتفاق هي نيابة تجتمع فيها الوكالة والنيابة معاً، بمعنى أن هذه النيابة تُضفي صفة الوكيل على النائب.
والأصل في النيابة (سواء المقترنة بالوكالة أو بدونها) هو حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل مع انصراف الأثر القانوني لهذه الإرادة إلى شخص الأصيل كما لو كانت الإرادة قد صدرت منه. ذلك لأنه في كلا الحالتين يكون النائب (أو الوكيل) يعمل لحساب الأصيل أو الموكل، لا لحسابه الشخصي.
وعليه نستخلص مما تقدم أن الوكيل (أو النائب) حتماً يجب أن يعمل لحساب الموكل أو الأصيل الذي أنابه، وأن يلتزم برعاية مصالحه، لا أن يعمل لحسابه هو ولمنافعه الشخصية، وهذا هو الذي يميز عقد الوكالة أو الإنابة عن باقي العقود «المسماة».
وقد توسعت فكرة النيابة (بعد أفول العهد الاستعماري والإقطاعي وبزوغ الأنظمة السياسية والدستورية) لتشمل النيابة البرلمانية أو «العضوية النيابية»، وإنْ باختلافِ بعض الأسس والوظائف بين النيابة بوجه عام والنيابة البرلمانية. إنما هذه وتلك يجمعهما المبدأ الأعلى وهو «أن النائب يجب أن يعمل لحساب من أنابه وهو الأصيل لا لحسابه الشخصي».
ومن المعروف أن «النيابة البرلمانية» أو «العضوية النيابية» هي وجه من وجوه الديمقراطية مصدرها إرادة الشعب الذي ينتخبها في إطار منظومة أو هيئة واحدة هي «البرلمان» أو «مجلس الشعب». على أساس أن الشعب هو صاحب السلطة ومصدر السيادة وفقاً للمبدأ القائل «إن حكم الشعب للشعب». ذلك لأن الديمقراطية تفترض أن يباشر الشعب السلطة بنفسه باعتباره مصدر جميع السلطات وصاحبها الوحيد، وهذا ما أكد عليه دستور مملكة البحرين في المادة الأولى من «أن نظام الحكم في مملكة البحرين ديمقراطي، السيادة فيه للشعب مصدر السلطات جميعاً».
ولهذا خوّله القانون بأن يختار من يريد من أفراده نواباً يتولوا ممارسة السلطة نيابة عنه.
وعليه فإن فكرة «النيابة البرلمانية» أو «العضوية النيابية» تقوم على أساسين، الأول: أن حكم الشعب للشعب، والثاني: أن الغاية من العضوية النيابية هي تحقيق مصالح الشعب والدفاع عنه بمجموعه، لا عن فئة دون أخرى.
ومن خصائص النظام النيابي ليس فقط أن تكون هناك هيئة نيابية منتخبة وهي «البرلمان» إنما يجب اعتبار كل عضو من أعضاء هذه الهيئة نائباً وممثلاً للشعب بأكمله لا باعتباره نائباً عن الدائرة التي انتُخب فيها فقط، وأنْ تكون لهذه الهيئة سلطة حقيقية فعلية. وفوق هذا وذاك يجب أن تتجسد في العضو النيابي عمق الثقافة والخبرة الواسعة، والفصاحة وحسن اللغة والمنطق، وكفاءة الحوار، والقدرة الذاتية على فهم «الأسس القانونية» وإنْ لم يكن بالمستوى التقني، وإلمامه بأهم أدوات التعبير المنظِّم للنصوص القانونية، وإحاطته بالأبعاد الإنسانية والاجتماعية والسلوكية والاقتصادية، وأن يكون وطنياً معاصراً مطلعاً على واقع وظروف ومشاكل الأمة، وأن يتسم بالعدالة الاجتماعية، فضلاً عن استقامته وحسن سيرته الذاتية وخلوّه من مرض أو قصور عقلي أو نفسي، ليصبح بذلك أهلاً لأن يكون نائباً عن الشعب ومقرراً بالنيابة عنه.
ولهذا نأسف عندما نلحظ «نائباً برلمانياً» لا يعرف أبجدية القانون، كأن يساوي بين من يقول ببراءة متهم قبل إدانته قضائياً وبين من ينادي بإدانته قبل ذلك، بل يمدح الأخير ويذم الأول، أو أن يخوض في حوار عبر قناة فضائية هو فوق مفهومه وعلمه ومقدرته، أو أن يتحاور مع من هو أقدر منه فيعجز عن الحوار إلاّ من ألفاظ بدائية ساجدة ومفاهيم عقيمة، فيسيء بذلك إلى نفسه وإلى من فوّضه وأنابه.
ونأسف أكثر عندما يطل علينا نائبٌ برلماني في فضائية عربية يتحدث بلغة الخصم المعادي لفئة أو جماعة من الشعب، أياً تكن هذه الفئة، متناسياً أو جاهلاً أنه ممثلٌ للشعب كله ونائبٌ عنه لا يجوز له شرعاً وقانوناً وعقلاً وخلقاً أن يكون خصماً لأي فئة أو جماعة من الشعب وإن كانت هذه الجماعة مخطئة. وليس مكانه - إنْ أراد المخاصمة أو المحاسبة - إلاّ تحت قبة البرلمان لا بالتشنيع والسباب عبر الفضائيات... ما يؤكد ذلك تدني الثقافة النيابية لدى البعض.
بل إن ما يحمل على الحزن والأسى أن نجد نائباً برلمانياً ديدنه إلباس الحق بالباطل وتحريف الكَلِم عن مواضعه، بعد أن عمي بصره وغلبت عليه العصبية المذهبية، وسجى طبعه على زرع الفتنة وبذر بذور البغضاء والكراهية بين أفراد شعبه الواحد ابتغاء الوصول إلى قبة البرلمان بأي ثمن، ثم يُلقي بظلاله بعد ذلك ليصبح معول هدمٍ بدلاً من أن يكون لبنة بناء، دون أن يجد في نفسه حرجاً عما يثمر زرعه من حصاد موهن نكد لا خير فيه سوى تمزيق الأمة بإثارة حفيظة البعض على البعض الآخر وتأجيج شنآن الحقد والكراهية وقطع الصلة فيما بينهم وسلخ أواصرهم على مذبح الوطن.
وليت يعلم هذا أو ذاك أن خير الأوطان وطن تحابب فيه أهله، وأعان فيه الجار جاره، وسمت فيه تحية الإسلام «السلام».
علي محسن الورقاء
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2948 - السبت 02 أكتوبر 2010م الموافق 23 شوال 1431هـ