نهضة الحسين(ع):أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
ألقى سماحة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في الخطبتين:
نهضة الحسين(ع):أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر
قال الله عزّ وجلّ في محكم كتابه العزيز: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104].
قرار رفض البيعة
كانت البداية في مدينة رسول الله(ص)، عندما جاء واليها آنذاك، ليبلّغ الحسين(ع) بالقرار، ألا وهو: مات معاوية، والبيعة لا بدَّ من أن تتمّ منه ليزيد حاكماً وخليفةً للمسلمين، ولا خيار للحسين(ع)؛ فإمّا أن يبايع فتُفتح له كلّ الأبواب: المال والموقع والتّقدير والأمان، له ولعائلته ولشيعته ولكلّ الّذين ينضوون تحت لوائه، وإن لم يفعل، فالقتل أو التّشريد وضياع كلّ هذه الفرص أمامه...
لم يتردّد الحسين(ع)، فخياره كان واضحاً، عبّر عنه وبكلّ إصرار وتصميم وحسمٍ، فقال: "إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرّسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النَّفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله".
لم يكن الأمر مفاجئاً لوالي المدينة ولا للّذين معه، ولا للمسلمين، فلا يمكن للحسين(ع)، الإمام، المؤتمن على الإسلام، سيّد شباب أهل الجنّة، الامتداد الشّرعيّ لرسول الله بعد أبيه عليّ(ع) وأخيه الحسن(ع)، لا يمكن أن يقبل بأن يصل الواقع الإسلاميّ إلى ما وصل إليه، حتّى ولو بايع كلّ المسلمين، وقبلوا بالأمر الواقع وخضعوا له...
أعلن الإمام قراره: "ومثلي لا يبايع مثله"، وهو واعٍ ومدرك تمام الإدراك لحجم التّضحيات الّتي هو مُقبلٌ عليها، فمواجهة يزيد والحكم الأمويّ لا بدّ آتية، ومسار الأمور لا يُنبئ إلا بذلك. وهذا ما قاله لأخيه محمّد بن الحنفيّة، عندما جاءه ناصحاً إيّاه بعدم الخروج من المدينة، للبدء بثورته التّغييريّة: "يا أخي، والله، لو لم يكن لي ملجأ ولا مأوى، لما بايعت يزيد بن معاوية"..
التغيير هدف الثّورة
وقبل أن يغادر المدينة إلى مكّة الّتي جعلها منطلقاً لحركته، ترك بين يدي أخيه بيان ثورته.. ماذا يقول البيان؟: "هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب، إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة، أنَّ الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، وأنَّ الجنَّة والنَّار حقّ، وأنَّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور".
ثمّ، وبكلّ هدوء وثبات وعدم انفعال، أضاف مبيّناً هدفه الّذي يسعى إليه: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين. وهذه وصيّتي يا أخي إليك، ومن خلالك للمؤمنين، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت وإليه أنيب".
وتوكّل الحسين على الله، وانطلق بثورته التّغييريّة.. أمّا الهدف لديه فكان واضحاً وساطعاً مثل الشّمس، وكان حجم الصّعوبات أيضاً لديه واضحاً؛ إنّه التّغيير، إنّها أمانة الرّسالة، إنّها المسؤوليّة الّتي تحتّم عليه التحرّك سريعاً ومن دون تردّدٍ، لبعث الحيويّة في المجتمع الّذي وصل به الحدّ من السّكوت والرّضوخ والتّهاون، إلى أن يحكمه يزيد. كان الكلّ يعرف من هو يزيد، ويعرف أنّ استلامه الخلافة يعني سقوط ما تبقّى من القيم والمبادئ في المجتمع.
وتوجّه الحسين(ع) من مكّة إلى الكوفة، ولم توقفه كلّ المؤشّرات التي بدأت تؤكّد له صعوبة ما هو مقدم عليه.
لهذا، عندما سمع ردّ الفرزدق، الشّاعر المعروف، عن حال الكوفة: "قلوب النّاس معك وسيوفهم عليك"، لم يأبه.
وعندما أيقن أنّ الظّروف تغيّرت في الكوفة، تحت ضغط التّخويف والمال والسّجن، لم يتراجع.
ولما جاء إليه الخبر بمقتل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل، تابع .
وعندما رأى بدايات جيش ابن سعد جاء يواجهه، لم ينثن، ولم يتملّكه أيّ تردّد، بل على العكس، تابع إعلان مواقفه، فلا بدَّ للنّاس من أن يعوا الحقيقة، لا بدَّ لهم من أن يتحرَّكوا، وأن يثوروا.
لذا، وهناك على أرض كربلاء، وعلى ذلك المفصل التّاريخيّ والحاسم، وقف الإمام الحسين(ع)، ليوضح، وبدون لَبسٍ، منطلقاته الرّساليَّة لا الشَّخصيَّة، مؤكِّداً أنَّ ما انطلق لأجله له جذور تمتدّ إلى عمق الرِّسالة، مذكِّراً بما جاء به جدّه رسول الله(ص): "أيّها النّاس، إنّ رسول الله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.. ألا وإنَّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشَّيطان وتركوا طاعة الرَّحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، وأنا (الحسين بن علي) أحقّ من غيّر".
بعدها، كانت خطبته الواضحة، المبيِّنة للأخطار المحدقة بالواقع الإسلاميّ آنذاك، وحجم التحدّي عنده والاستعداد له حتّى لو أدّى إلى الاستشهاد: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، لِيرغب المؤمن في لقاء ربّه حقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادةً، والحياة مع الظّالمين إلا برماً".
وعندما استحكم الحصار حوله، وجاؤوا يساومونه في حياته وحياة من معه، مقابل أن يوقّع ويبايع ويستكين ويهدأ وتتوقَّف نبضات الثّورة فيه، قال: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد..". "ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة..".
الدّم ينتصر للحقّ
وكانت كربلاء، كربلاء الدَّم والجراح، كربلاء الشّهداء وسبي النّساء، وكان بموازاتها الانتصار، الانتصار للموقف الحقّ، للموقف الحرّ، لقيمة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر...
وهذه القيمة، أيّها الأحبّة، الّتي جاءتنا ممزوجةً بكلّ هذه الآلام والجراحات، ومضرّجةً بنزف الدّماء، لم تكن جديدةً أو حالةً استثنائيّة، إنما هي نفسها القيمة الّتي مثّلت عنواناً لكلِّ الرّسالات، الّتي كان هدفها الأوّل والأساس: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ الأمر بكلّ ما هو صالحٌ للبشريّة، والنَّهي عن كلِّ ما هو قبيحٌ ومسيءٌ إلى الإنسانيَّة، وإلى كلّ ما أراد لها خالقها ودعاها إليه..
فكانت ثورة الحسين هي الوريث الشَّرعيّ لكلِّ تلك الرّسالات، والمتابعة لكلِّ خطواتها وأهدافها..
أيّها الأحبَّة: لقد أولى الإسلام قيمة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر أهميّةً كبرى، واعتبرها ركناً أساسيّاً:
فهي دعوة الله لعباده: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران : 104].
وهي "غاية الدّين"، كما أشار إلى ذلك الإمام عليّ(ع) حيث قال: "غاية الدين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"...
وهي عنوانٌ لقوّة الفرد والمجتمع، كما ورد في الحديث: "إنّ الله تبارك وتعالى ليبغض المؤمن الضَّعيف الّذي لا دين له"، وعندما قيل له: يا رسول الله، وما المؤمن الّذي لا دين له؟ قال: "الّذي لا ينهى عن المنكر".
وهي مفتاح قبول الدّعاء والأمان؛ أمان الدّنيا والآخرة، ففي وصيّة الإمام عليّ(ع): "لا تتركوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يُستجاب لكم".
مسؤولية التّصدّي للمنكر
أيّها الأحبّة، إنّ كثيراً مما نعاني منه، وما نواجهه من فسادٍ وطغيانٍ وظلمٍ وانعدامٍ للبركات والخيرات... يعود إلى أنّنا تركنا مسؤوليّاتنا في الدّعوة لأداء الواجبات وترك المحرّمات..
لقد بتنا نشعر بأنّ هناك مسافةً كبيرةً بيننا وبين قيمة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والّتي هي أصل الإسلام..
ما نلاحظه، أيُّها الأحبَّة ـ وهو خطير ـ أنَّنا بتنا نمرّ على المنكر وكأنّنا لم نر شيئاً، حتّى دون الاستنكار القلبيّ، والأخطر، هو أنّنا لم نعد نرى المنكر منكراً ولا المعروف معروفاً.. والأخطر منهما، هو عندما صرنا نرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً..
وإذا ميّزنا بينهما، فإنّنا لا نبادر إلى التّغيير، خشية ردود الفعل ممن نأمرهم أو ننهاهم، حتى ولو كانوا ممن نملك أمرهم ونمون عليهم..
وإذا بادرنا، فإنَّنا قد لا نصبر، وخصوصاً إن كان الأمر سيكلّفنا ولو الإحراج، فإنّنا نفضّل عندها الانسحاب والتّراجع..
ما بتنا نلاحظه وبكلّ أسف، أنّ صاحب المنكر كان يستحي ويخجل عندما يواجه بفعلته، أمّا الآن، فإنّه صار يواجه المعروف ويفعل المنكر بإصرارٍ وبعينٍ مفتوحة، كما يقال. والجواب الجاهز الّذي يرميه في وجهنا: أنا حرّ..
ونسأل: لماذا كلّ هذا؟ هل هو نمط الحياة المادّيّ بحيث لم يعد للقيم أيّ معنى فيها، أو هي القيم المستوردة الّتي تركِّز على الفرد ومساحته الشّخصيَّة وعدم التدخّل فيها.. على مقولة: كلّ واحدٍ ذنبه على جنبه، ولا أحد سيحاسَب عن أحد، أو على مقولة: ما لنا وللدّخول بين السّلاطين؟! ثُمّ، هل هو الخوف على المال أو على الموقع أو العلاقات والصّداقات، أم الأمر يتعلّق بكلّ هذه الأمور مجتمعة؟
أخشى، أيّها الأحبّة، أن يكون غائباً عن الأذهان، أن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هو واجب، تماماً كما هي الصّلاة والصّوم والحجّ وكلّ الواجبات، بل هو المفتاح لكلّ الواجبات وترك المحرّمات.. ولا بدَّ للجميع من أن يقوموا بهذا الواجب بما يتناسب مع المقام الّذي هم فيه، فلكلّ مقام مقال، فقد يقتضي منك الأمر أن تعبّر عن موقفك بالكلمة، وقد يقتضي منك الأمر استعمال اليد، وقد تحتاج إلى رفض الباطل والمنكر بقلبك، وقد يقتضي الأمر مقاطعةً وهجراناً، وقد ورد في الحديث: "من رأى منكم منكراً فلينكره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
المهمّ أن نبقى نتحسَّس من فعل المنكر في المجتمع، فلا يرتاح للعاصين بال، يجب أن يشعر الكلّ بالخطأ الّذي يحصل... ولا يظنّنّ الّذين يتركون الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أنّهم بعيدون عن النّتائج، فكما الحريق إذا اشتعل ولم يسارع الأطفائيّون إلى إطفائه، فإنّه يمتدّ ليطال كلّ شيء، كذلك الانحراف إذا لم يتوقّف ويحاصَر في الدّائرة الّتي ينطلق منها، فإنّه سيمتدّ إلى كلّ البيوت والأحياء والقرى والمدن.
الحياة ساحة مسؤوليّة
أيّها الأحبّة، الحياة بكلّ مفرداتها، وبكلّ ما تعني من حقٍّ وعدلٍ وعزّةٍ وحريّة، ورفضٍ للظّلم والطّغيان والفساد والانحراف، هي ساحتنا، هي ساحة مسؤوليّتنا، فكما من حقّ الحياة علينا أن نبنيها، أن نزرعها بكلّ ما هو مثمر ومفيد، وننزع منها كلّ ما يضرّها، فإنّ من حقّ الحياة علينا أن نزرعها قيماً ومبادئ وأخلاقاً، وأن نبعد عنها كلّ ما يسيء إليها..
وكما البناء والزّرع يحتاجان مهندسين وبنّائين وعمّالاً وجهداً وصبراً وتضحيات، كذلك زراعة الحقّ والعدل والخير والإحسان، تحتاج إلى مهندسين يحسنون الأسلوب والتصرّف، بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلك يكون بناؤهم مدروساً ومتيناً، وزرعهم مثمراً ومفيداً...
أيّها الأحبّة، إنّ الّذي واجهه الحسين(ع) في كلّ ثورته، هو هذا الموت، الموت في الفكر وفي السّياسة والاجتماع والدّين والأخلاق، هذا الجمود القاتل، هذا الذي يسمّى سياسة القبول بالأمر الواقع، والإبقاء على ما كان حتّى لو كان باطلاً أو منكراً أو فساداً قاتلاً لكلّ حيويّة الحياة..
لقد أدَّى الإمام الحسين واجبه، واجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وجسَّده مع كلّ الّذين كانوا معه بأعلى تجلّياته، ولم يكن في ذلك ينتظر النّتائج إلا من الله. فهل نخلص له في ذلك؟!
أيّها الأحبّة: ها هو الحسين يعبر كلّ التّاريخ ناطقاً، فيما سكت الآخرون وصمتوا، وذهبت لذّاتهم وأطماعهم أدراج الرّياح، لقد دُفنت الأجساد في كربلاء، ولكنّها لم تُدفن معها الأصداء، بل بقيت تتردّد لتكون مصدراً وملاذاً للمجاهدين وطلاّب العدل وكلّ الأحرار في العالم، وبقيت قيمة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هي الشّعار الّذي نتطلّع إليه في كلّ زمانٍ ومكان، وسنبقى نردّد:
السّلام على الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، وعلى كلّ الّذين ساروا على هدي الحسين، هدي رسول الله، هدي الأنبياء والمرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
فلسطين و"منطق القوّة"
في فلسطين المحتلَّة، يزعم العدوُّ ـ عبر بعض مسؤوليه ـ أنّ المصلّى المروانيّ في المسجد الأقصى آيلٌ إلى السّقوط والانهيار، في عمليّة تخويفٍ جديدةٍ لآلاف المصلّين من ارتياد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين، وفي محاولةٍ جديدةٍ لجسّ النّبض العربيّ والإسلاميّ حيال خطط الاحتلال في تهديم المسجد الأقصى، كخطوةٍ نهائيّةٍ تقضي بشطب المعلم الإسلاميّ الأوّل في القدس المحتلّة، في سياق سعي العدوّ لإنهاء القضيّة الفلسطينيّة بشكلٍ كامل.
وفيما يسكت العالم العربيّ والإسلاميّ أمام جرائم العدوّ وعدوانه، في الأقصى والقدس والضفَّة الغربيَّة، وعلى أطراف غزّة المحاصرة، تتواصل عمليّات الزّحف الاستيطانيّ، وتهديم بيوت الفلسطينيّين، وقطع الأشجار، وتجريف البساتين، في عمليّة حصارٍ وضغطٍ مستمرّين، لإرغام الفلسطينيّين على التّسليم بشروط العدوّ الّذي لا يلتفت إلى كلمات مسؤولي السّلطة الفلسطينيّة برفض الاستمرار في التّفاوض، لأنّها كلمات الضّعفاء الّذين يستجدون القوّة من فتات الآخرين.
إنّنا أمام هذا الواقع الصَّعب الّذي تُطوَّق فيه القضيَّة الفلسطينيَّة، وتعلن فيه الإدارة الأمريكيَّة تهرّبها وعجزها عن إقناع العدوّ بوقف عمليَّات الاستيطان، لإعطائه المزيد من الوقت لتنفيذ كلّ مخطّطاته، نؤكّد على الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، أن ترفع شعار "منطق القوّة": "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد، ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون".
إنّنا نريد لهذه الرّوح أن تتجذّر، ونحن لسنا من الّذين يبسّطون الأمور ويتحدّثون بالانفعال والحماس، لكنّنا من الّذين يؤكّدون بقاء الرّوح مشتعلةً، وبقاء الحياة متدفّقةً في داخل الأمّة، وانطلاقاً من ذلك، نرسم الخطط، وننظّم الأمور، ونحرّك الواقع، فنستفيد من تغيّرات الظّروف لنصنع الوقائع، هكذا فعل عدوّنا عندما احتلّ فلسطين، وهكذا نفعل حتى نعيدها.
أمّا الواقع العربيّ الرّسميّ في كثيرٍ من تجلّياته، فقد بات عليه أن يسمع نبض هذه الشّعوب للاستجابة لمطالبها في كلّ ما يتّصل بحقوقها وكرامتها واستقلالها النّاجز، ولا سيَّما أنّ ما سُرِّب ويسرَّب من معلوماتٍ ووثائق مما طرح أخيراً، يطرح الكثير من علامات الاستفهام الكبرى الّتي ينبغي أن تعجّل المطالبة بمعاقبة وملاحقة كلّ أولئك الّذين قدّموا مصالح المحتلّ على مصالح شعوبهم وأمّتهم.
لبنان: العدالة في نفق السياسة
أمّا لبنان، فقد أُريد له أن يتحوَّل إلى ملهاةٍ في كلّ لعبة الشدّ والجذب التي تسير فيها الحركة القضائيّة الدّوليّة، على وتيرة الحوارات والمفاوضات التي تنطلق من هنا وهناك، لتبرز الحقيقة الّتي لم تعد خافيةً على أحد، في أنّ العناوين القضائيّة الدّوليّة باتت أدواتٍ لتحريك الوضع السياسيّ في هذا الاتجاه أو ذاك، ولتعديل موازين القوى، أو لتحسين مواقع البعض في هذه الدّائرة أو تلك، أو لإقامة جسورٍ حواريّةٍ قد تمهّد لتوازناتٍ معيّنةٍ أو مساومات، أو قد تعيد الأمور إلى نقطة الصّفر في المجالات الأمنيّة والسياسيّة وغيرها.
إنّنا نقول للّبنانيّين الّذين اكتووا بنيران اللّعبة الدّوليّة كلّ هذه السّنوات، وخصوصاً من العام 2005 إلى الآن، إنّ الأمور لا تزال بأيديكم، فلا تتنازلوا عن أدواركم لحساب اللاعبين الدَّوليّين ولا حتَّى الإقليميّين، لأنَّ فقدان الثّقة، وتضييع الوقت، وتعطيل الحلّ، سوف يعود بالضَّرر على الجميع، لأنَّنا نخشى أن يدخل البلد في نفق الفتنة الّتي لن تطاول شراراتها الظَّالمين فحسب، لأنَّها الحالقة الَّتي تجتاح المواقع، وتقتات على حطب الطَّوائف والمحاور المتعدّدة..
إنّنا نعود ونؤكّد أهميّة الوصول إلى العدالة، وندعو إليها، ولكن ما نحتاج إليه، هو أن لا نخضع للعبة الكبار الّذين باتوا هم جلادي هذا العالم، ويريدون أن يكونوا القضاة فيه. نريد أن ندرس الخلفيّات والوقائع بعقلٍ باردٍ بعيدٍ عن كلّ التّوتّرات والحساسيّات، لعلّنا ننقذ البلد من كلّ ما يراد أن يدخل فيه.. ولا يزال الأمر بأيدينا قبل أن يصدر الكبار كلمتهم، ونحن قادرون على أن نفوّت الفرصة إن تلاقينا وتحاورنا للوصول إلى النّتائج، لا لتأكيد ما نعتقده أو لاكتساب المزيد من الوقت.
أيّها السياسيّون، أيّها المسؤولون، اتّقوا الله، وتحمّلوا المسؤوليّة عن الطّوائف والكيانات والتجمّعات، قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس القيادات قبل الآخرين.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 4 محرّم 1432 هـ الموافق: 10/12/2010 م