كفى إهانة للمعلمين
قلنا يوماً، ولا نزال نكرر، إن المـُعلِمَ مُقدسٌ لأن أسباب البصيرة وثمار الصلاح جودٌ من جوده، وان انقشاع الظُلمة والجهالة فضلٌ من فضله، وأن فضائله لا تُعد إنْ أعددتها، ومديحه لا كفاية له إنْ مدحته، ودَيـْنـَهُ لن يوفىَّ مهما وفيته. وانَّ قُدسيته مُستمدةٌ من صفته؛ فهو العالم والمنير والمحسن والكريم والصابر والحي الذي لا يموت وإنْ مات جسده، فهكذا هو «المـُعلِمُ» في حياته ومماته. بيد أنه كما يبدو لنا أن هناك عقولاً قد أقفلها الحُمْق، ونفوساً باتت خاويةً لانتقاص العقول، فكان نتاج هذا وذاك انتفاء الحكمة وغياب الفضيلة، لدرجة أن نسمع هناك من يقول: «إن المـُعلم ليس بمُقدَّس إنما العِلمُ هو المقدَّس».
فانظروا إذاً كيف هوت «العقول» لدى البعض حين نراهم يُقدسون المنقول (العِلْم) ولا يُقدسون الناقل (المـُعلم). ونخشى أن يقولوا غداً ان «النبوة» أقدس من النبي، وأن «الرسالة» أقدس من الرسول.
إنَّ ما نقف عليه اليوم من أمر هو ذاته الأمر الذي وقفنا عليه من قبل حين خاطبنا ضمائر السادة المسئولين بوزارة التربية والتعليم بعبارة مقتضبة كانت تُغني آنذاك عن اليراع، وهي «هل نسيتم أن المـُـقدَّس لا يُهان». غير أنهم كما يبدو لم يفهموا هذه العبارة، فيحتاج الأمر إلى أن نخاطبهم باليراع.
إنه وبعد مضي أكثر من ثمانية أشهر من قيام الأحداث السياسية في البحرين (وبالتحديد في أبريل/ نيسان الماضي) نسمع اليوم أن وزارة التربية والتعليم أوقفت بعضاً من المعلمين عن العمل لمدة عشرة أيام كعقوبة تأديبية بسبب تجمهرهم وغيابهم إبان الأحداث السياسية المشار إليه، وأنها عادت لتوقيف بعض المعلمين عن العمل بعد أن أوقفتهم من قبل بالمدة نفسها ولـ «الجرم» السابق ذاته، أو أنها عاودت من جديد بخصم عشرات الأيام من أجورهم على دفعات كعقوبة تأديبية لـ «الجرم» الأول ذاته، حتى علمنا (طبقاً لما نُشر في إحدى الصحف المحلية) أن بعضاً من المعلمين لم يحصلوا على راتب شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي نتيجة الخصومات التي وقعت عليهم تأديبياً بسبب ذلك «الجرم».
فإذا كان ذاك ما قيل وسمعناه صحيحاً فقد استوجب أن نقف وقفة صريحة باسم القانون والعدالة، بعيداً عن السياسة وعن عبارات الإنشاء ومصطلحات الأدب، لنردد ما قلناه من قبل، فيما يلي:
أولاً: لا يجوز معاقبة أي عامل أو موظف بأية عقوبة تأديبية إلاّ إذا توافرت شروط صحة الجزاء التأديبي واحترام الضوابط القانونية المقيدة لتنفيذ الجزاء، وأهمها:
(1) تحديد موضوع الخطأ (أو المخالفة) تحديداً واضحاً لا لبس فيه، وبيان تاريخ وقوعها، وإبلاغ الموظف بها كتابياً، مع وجوب ذكر النص القانوني المـُقرِر للعقوبة، استناداً لمبدأ «لا عقوبة إلاّ بنص». ومن ثم الاستماع إلى أقوال الموظف المتهم وتحقيق دفاعه وإثبات ذلك في محضر يوقِّع عليه قبل تقرير العقوبة.
(2) إبلاغ الموظف بالعقوبة المقررة عليه ومنحه فرصة كافية للتظلم قبل تنفيذها.
وهذا الإجراء واجب التطبيق بحكم القانون مهما تكن نوع المخالفة وحجم العقوبة، وإنَّ عدم تطبيقه طبقاً للقانون تمسي العقوبة باطلة.
بيد أن هذا الإجراء مع المعلمين المعنيين لم يجرِ كما رسمه القانون. بل ليس هذا وحسب، إنما بلغ إلى حد يُخفق القلب ويوهن النفس، إذ علمنا أن جهة ما بوزارة التربية اتصلت تلفونياً بمعلم وأبلغته رسالة مقتصرة (أنت موقوف عن العمل مدة عشرة أيام اعتباراً من يوم غد... والسلام).
وهنا يحق لنا أن نسأل: هل أن مثل هذا الأسلوب دليل جهل بالقانون، أم انه وجه من وجوه الإهانة بالمعلمين؟. ولمَ المعلمون بالذات دون غيرهم؟. هل لأنهم ذوو قدسية وجلالة فكان ذلك جزاؤهم؟
ثانياً: إذا ما ثبُت جدلاً وقوع الخطأ وجب أن تكون العقوبة متناسبة مع مستوى المخالفة ودرجة جسامتها وفي الحدود التي رسمها القانون، ولا يجوز توقيع عقوبة على مخالفة واحدة أكثر من مرة.
بينما الواقع أن عقوبات الخصم كما سبقت الإشارة إلى ذلك كانت متكررة فأدى ذلك إلى عدم تناسب مستوى المخالفة مع حجم العقوبة، وهذا يُعدُ مخالفة صريحة لأحكام القانون.
ثالثاً: لا يجوز مساءلة الموظف تأديبياً بعد مضي ثلاثة أشهر من تاريخ علم رئيسه المباشر بوقوع المخالفة طبقاً لحكم المادة (24) من قانون الخدمة المدنية رقم (48) لسنة 2010.
بينما الواقع أن العقوبات الموقعة على المعلمين المعنيين كانت بسبب تجمهرهم وغيابهم عن العمل في شهر أبريل الماضي، أي منذ ثمانية أشهر ونيف مضت على وقوع المخالفة المنسوبة إليهم، وهذا يُعتبر أيضاً مخالفة صريحة لأحكام القانون.
رابعاً: هناك مبدأ حري بالإحاطة به وهو مبدأ «لا عقوبة إلاّ بنص». بمعنى أنه إذا لم يوجد نص في القانون يعاقب الأفراد على فِعْلٍ ما، فلا يجوز توقيع العقوبة عليهم وإنْ ارتكبوا هذا الفعل.
وانطلاقاً من هذا المبدأ دعونا نقف على مدى تطبيقه.
فقانون الخدمة المدنية الذي صدر بالمرسوم بقانون رقم (48) لسنة 2010 والذي نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 جاء في المادة الثانية من ديباجته النص التالي: «يصدر رئيس مجلس الوزراء بقرار منه اللائحة التنفيذية لهذا القانون خلال سنة من تاريخ العمل به، وإلى أن يتم إصدار هذه اللائحة يستمر العمل بالقواعد واللوائح المعمول بها حالياً».
فمن النص السابق نستخلص أن اللائحة التنفيذية المنفِذَّة لأحكام قانون الخدمة المدنية يُعمل بها حتى تاريخ 19 نوفمبر 2011 فقط، إذ ينتهي مفعولها بعد هذا التاريخ وتصبح وكأنها لم تكن بحكم القانون.
وحيث تبين أنه لم تصدر بعدُ لائحة تنفيذية جديدة بدلاً من اللائحة المنتهي مفعولها سابقت الذكر، والتي كما قلنا اعتُبرت كأن لم تكن بعد ذلك التاريخ، فهذا يعني أننا اليوم في فراغ تشريعي، أي بمعنى أوضح انتفاء وجود النص حالياً. وبانتفاء وجود النص تصبح العقوبة بلا نص. وحيث المبدأ يقول «لا عقوبة إلاّ بنص»، فإن أية عقوبة لا تقوم أو لا تستند إلى نص عقوبة باطلة.
وبناء عليه فإن العقوبات التأديبية التي تقررت على المعلمين بعد تاريخ 19 نوفمبر 2011 بمقتضى اللائحة التنفيذية عقوبات باطلة، وذلك لعدم وجود النص. وهنا نعني بالطبع القواعد الإجرائية الخاصة بتأديب الموظفين المنصوص عليها في هذه اللائحة، وليس النصوص العامة التي قررها قانون الخدمة المدنية.
وقد يقول قائل: إن المخالفة سبب العقوبة قد وقعت إبان نفاذ اللائحة التنفيذية المشار إليها وقبل انتهاء مدتها. فنقول: إن من المستقر عليه في تطبيق النصوص الجنائية أو التأديبية تكون العبرة دائماً بتاريخ صدور الحكم بالعقوبة لا بتاريخ المخالفة أو الخطأ. فإن تقررت العقوبة في وقت خلا فيه القانون من نص معاقب فإن العقوبة تكون باطلة وإن وقع الخطأ في وقت كان النص قائماً.
فإذا كان المشرِّع قد أخطأ بتجاهله أو تأخره عن إصدار الأحكام المقررة للعقوبة فأوقعنا في فراغ تشريعي فلا يجوز تحميل الأفراد جريرة هذا الخطأ.
وكم قرأنا تعقيباً من وزارة التربية والتعليم نُشر في الصحف المحلية تقول فيه: إن توقيع العقوبات على المعلمين كانت طبقاً لأحكام القانون، فأخبرينا يا وزارة التربية والتعليم الموقرة بأحكام القانون في هذا الصدد فقد نجهلها، ونكون لكِ من الشاكرين. وإلاّ نعتذر لك بالقول: اتقي الله من الغول في الإساءة بأهل العزة والكرامة ورجال المجد والنُبل «المعلمين»، وكفى إهانة بهم
علي محسن الورقاء
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3410 - الأحد 08 يناير 2012م الموافق 14 صفر 1433هـ