قال الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿90﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴿91﴾﴾
﴿والْمَيْسِرُ﴾ القمارُ، ﴿وَالأَنصَابُ﴾ نوع من الأوثان وهي حجارة يُهرِيقُونَ الدم عبادةً لها لأنها تُنصَبُ فتُعبَدُ. والأزلامُ هيَ سِهامٌ كانَ مَكتُوبًا على أحَدِها أمَرني ربي. وعلى الآخَر مَكتُوبٌ نهَاني ربي والثّالث ليسَ علَيهِ كِتابةٌ ويُعِيدُونَ الخَلطَ كُلّما أخَذُوا أحَدها ولم يخرُج ما عليهِ كِتابة حتى يخرُجَ ما عليهِ كِتابة. ﴿رِجْسٌ﴾ أي نجسٌ أو خبِيثٌ مستَقذَرٌ، ﴿ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾، لأنه يحمِلُ عليه فكأنّهُ عمَلُهُ، والضّمير في ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ يَرجِعُ إلى الرِّجْس أو إلى عمَلِ الشّيطانِ، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أكَّدَ تحريمَ الخَمر والميسِر مِن وجُوهٍ حيثُ صدّر الجملةَ بإنما وقَرَنها بعِبادةِ الأصنام وجعَلَهُما رِجْسًا مِن عمَلِ الشّيطان ولا يأتي منه -أي الشّيطان- إلا الشّر البَحْت، وأَمرَ بالاجتِناب وجعَلَ الاجتنابَ مِنَ الفَلاح، وإذا كانَ الاجتنابُ فَلاحًا كانَ الارتِكابُ خَسارًا. وفي قولِه تعالى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ بيَانُ ما يتَولَّدُ مِن الخمرِ والميسِر مِنَ الوبَال وهو وقوعُ التّعادِي والتّباغُض بينَ أصحَاب الخمر والقِمار وما يؤدّيانِ إليهِ مِنَ الصّدّ عن ذِكْر الله وعن مُراعاةِ أوقاتِ الصّلاة وخَصَّ الصلاةَ مِن بينِ الذِّكر لزيادةِ درَجتِها كأنهُ قالَ وعن الصّلاةِ خُصوصًا، وإنّما جمَع الخَمرَ والميسر معَ الأنصَاب والأزلام أوّلًا ثم أفرَدَهما ءاخِرًا لأنّ الخِطابَ مع المؤمنين، وإنما نَهاهُم عمّا كانوا يتعَاطَونَه مِن شُرب الخمر واللّعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيدِ تحريم الخمرِ والميسر وإظهارِ أنّ ذلك جميعًا مِن أعمالِ أهلِ الشِّرك ثم أفردَهما بالذِّكْر ليُعلَم أنّهُما المقصودُ بالذِّكر. وقوله تعالى ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ مِن أبلغِ ما يُنهَى بهِ كأنّهُ قيلَ قَد تُلِيَ علَيكُم ما فِيهِما مِن أنواع الصّوارِفِ والزّواجِر فهل أنتُم مع هذِه الصّوارِف مُنتَهُونَ أم أنتُم على ما كنتُم عليهِ كأنْ لم تُوعَظُوا ولم تُزجَرُوا. ويُفهَمُ مِنَ الآية أيضًا أنّ القِمارَ مِنَ الكبائر ولهُ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ.
ورَوى الإمامُ أحمد من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أتاني جبريلُ عليهِ السّلام فقال يا محمدُ إنّ الله لعَنَ الخَمرَ وعاصرَها ومُعتَصِرَها وبائعَها ومُبتَاعَها وشَاربها وءاكلَ ثمنِها وحامِلَها والمحمولةَ إليهِ وساقيْها ومُستقِيها". وليس في الحديث أن النّاظِرَ إليها مَلعُون كما شاع على ألسنة بعض العوام بل قولُ ذلك على الإطلاقِ ضلالٌ وكفرٌ والعياذُ بالله.
ورَوى البخاريّ ومسلم أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال "مَن شَرِبَ الخَمرَ في الدّنيا يُحرَمُها في الآخِرة". أي إنْ لم يَتُب يُحرَم شُربَ خمرِ الجنّة الذي لا يُسكِرُ ولا يُصدِعُ الرّأسَ وليسَ نجِسًا. فقوله تعالى ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ مع قوله ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ دَليلٌ على حُرمةِ شُربِ الخمر، وقبل نزولِ هاتَين الآيتَين لم يَنـزل حُكم تحريم الخَمرة على أُمّة محمد أي إذا كانت إلى القَدْرِ الذي لا يَضُرّ الجِسم. مع ذلكَ فإنّ الأنبياءَ لا يَشربُونها ولا يحثُّونَ أُممَهم على شُربِ الخمر لأنّ ذلكَ يُنافي حِكمَةَ البِعثَةِ التي هيَ تهذيب النّفوس، وقليلُ الخمر يؤدِّي إلى كثيرِه. وما يَزعُم بَعضُهم مِن أنّ سيِّدَنا عيسَى قالَ قَليلٌ مِنَ الخَمر يُفَرِّحُ قَلبَ الإنسانِ فهوَ كذِبٌ عليه.
وأما قولُه تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ فهذا نزَلَ قَبلَ التّحريم، وكذلك قولُه تعالى ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالميْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا﴾ فهذا أيضًا ليسً تحريمًا، لأنّهم ظَلُّوا يشرَبُونَ الخمرَ بعدَ نُزولِ هاتَينِ الآيتَينِ بَل لما نزَلت هاتانِ الآيتانِ قال سيدُنا عمرُ رضي الله عنه "اللّهم بيّن لنا في الخمرِ بَيانًا شَافيًا" رواه أصحاب السنن الأربَعة أبو داود والترمذي والنسائي وابنُ ماجه. ولم يفهم سيدُنا عمر ولا غيرُه مِن الصحابة التَّحريمَ مِن هاتَين الآيتَين، وانقَطعُوا عن شُربها لما نزَلَ قَولُه تعالى ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ مع قولِه تعالى ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ لأنّهم فهِمُوا منهُ التّحريم القطعيَّ. والله تعالى تسهيلًا عليهم حتَّى لا يكونَ عليهم مشقّةٌ زائدةٌ في الإقلاعِ عن شربِ الخمرِ أنزلَ التحريمَ شيئًا فشيئًا. ثم لما نزل قوله تعالى ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ مع قوله تعالى ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ قال سيدنا عمر "انتهينا انتهينا" وأراقوا الخمرَ حتى جَرت في السّكَكِ. وأما قوله تعالى ﴿تتّخذون منه سَكرًا ورِزقًا حسنًا﴾ فقد قال بعضهم السَّكَرُ هو الخلُّ وقال بعضهم هذه الآية نُسِخت لما نزلت ءاية التحريم.
وكما يحرم شُربُ الخمرِ يحرم بَيْعها ولو لغَيرِ شُربها لحديثِ البُخاريّ ومُسلم "إنّ الله ورسُولَه حَرَّم بيع الخمر والميتةِ والخنـزيرِ والأصنامِ"