قضية هدم المساجد... مناقشة قانونية
المسجد هو مصلى الجماعة، وهو المكان أو العين المخصصة أو الموقوفة للصلاة والعبادة لعامة الناس بشكل ثابت ودائم.
والمسجد (أو العين) لا تشترط الشريعة فيها شكلاً مميزاً أو حجماً معيناً أو موقعاً خاصاً بعينه، كما لا يُشترط أن تكون مشيدة، إنما يشترط فيها فقط التخصيص أو الوقف لتكون مسجداً.
فمتى تم تخصيص أو وقف أرض أو عين لتكون مسجداً حملت صفة «المسجدية»، ومتى حملت هذه الصفة فإنها تحتفظ بصفتها وإن لم يُشيَّد عليها المسجد، أو هُجِر المسجد، أو هُدِّم بفعل الطبيعة أو بفعل فاعل بعد بنائه. وان أية عين تُخصص من قبل الدولة، أو توقف من قبل مالكها لتكون مسجداً تخرج من ملكية الدولة والمالك وتعود ملكيتها خالصة لله، فلا يجوز من ثم استردادها أو التعدي عليها من أي كائن كان أو سلطة تكون.
وعليه نخلص بالقول إلى أن «المسجد» هو كل عين أو مكان أُعِّد أو خُصص لعبادة الله وللذكر والتسبيح فيه، سواء كان مشيداً أو غير مشيد، وأيما وكيف يكون حجمه وشكله، وأياً يكن مذهب وطوائف وديانة العابدين والذاكرين والمسبحين فيه.
ولكن للمساجد قضية باتت اليوم عندنا حديث الساعة وقصة الساحة ألاَ وهي «هدم المساجد»، إذ أقدمت السلطة التنفيذية على هدم بعض منها أو تعطيلها بحجة عدم سبق ترخيصها أو تسجيلها.
ولكي لا ندخل في متاهات الأحكام الشرعية المتصلة بالوقف والواقفين للرد على هذه الحجة ودحضها رغم أنها أبلغ وانجع وسيلة لدحضها، نكتفي فقط بالرد قانونياً على مبررات الهدم والتعطيل التي تذرعت بها السلطة التنفيذية في سياق المبادئ القانونية الآتيــة:
أولاً: في شأن المساجد القديمة:
هناك بعضٌ من المساجد التي نالها الهدم قد مضى على بنائها وإنشائها عشرات العقود من الزمن، بل ان بعضها ضَمَّت أضرحة لعلماء دين منذ مئات السنين، أي قبل قيام دولة البحرين.
وحيث ان هدم هذه المساجد كما بينا كان بسبب عدم الحصول على الترخيص المسبق لبنائها.
وحيث ان الترخيص المشار إليه لابد أن يخضع لقواعد قانونية، أي وفق قانون معين يحدد شروط الترخيص وإجراءاته، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ وفق أي قانون يتطلب هذا الترخيص؟.
هذا السؤال يحتم علينا بداية أن نتدرج مع القوانين الصادرة المتصلة بالموضوع؛ فنجد أن أول قانون كان «النظام الأساسي للبلدية» الصادر سنة 1951 ميلادي، ثم قانون تطوير الأراضي الصادر سنة 1970، ثم القانون الصادر سنة 1973 بشأن إنشاء هيئة بلدية مركزية مؤقتة لإدارة شئون البلديات، وأخيراً قانون رقم 13 لسنة 1977 ميلادي بشأن تنظيم المباني وتعديلاته.
وبناء عليه يتبين لنا أن المساجد القديمة المهدمة قد تأسست وبُنيت قبل صدور هذه القوانين.
ولما كان من المقرر أن أحكام القوانين لا تسري إلاّ على ما يقع من تاريخ العمل بها ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبل هذا التاريخ وذلك طبقاً لنص المادة رقم (124) من الدستور لعام 2002، ولنص المادة رقم (3) من القانون المدني الصادر عام 2001، ما يعني أن ترخيص المساجد المذكورة لا يخضع لأحكام هذه القوانين لأنها بُنيت قبل صدور هذه القوانين، أو بمعنى أدق أن هذه القوانين جاءت لاحقة على بناء وإنشاء تلك المساجد وبالأخص قانون رقم (13) لسنة 1977 بشأن تنظيم المباني، وبالتالي تصبح تلك المساجد بمنأى عن الترخيص الملزم بمقتضى القوانين المشار إليها. وبناء عليه تمسي حجة عدم الترخيص طبقاً للقانون حجة باطلة لا تقوم على أساس قانوني ولا على أساس شرعي.
فضلاً عما تقدم؛ فإنه طالما تم تسجيل تلك المساجد لدى دائرة الاوقاف الجعفرية باعتبارها مرفقا عاما من مرافق الدولة وتمثل الحكومة في هذا الشأن فإن هذا التسجيل يصبح دليلاً قاطعاً لا يقبل النقض وكافيا بذاته لإثبات الترخيص المطلوب.
وحتى إذا نظرنا إلى تلك المساجد - جدلاً - على أنها عقارات عادية وكانت مخصصة للانتفاع بها لصالح المسلمين في أمور الدين والعبادة. وحيث ان حق الانتفاع بمقتضى القانون يُكتسب إما بالتصرف القانوني وإما بمقتضى الحيازة طبقاً لنص المادة رقم (913) من القانون المدني المشار إليه، وان الحيازة هذه لا تزول إلاّ إذا تخلى الحائز عن سيطرته الفعلية على الشيء، وفي غير ذلك لا يجوز انتزاعها منه بالقوة طبقاً لنص المادة رقم (890) من القانون المدني.
ولما كان قد مضى على تلك المساجد عشرات العقود من الزمن وهي في وضع الحيازة الظاهرة والهادئة والمستمرة فيكون ذلك كفيلاً بثبوت ملكيتها أو ثبوت حق انتفاعها للجهة الموقوفة له بالحيازة، ما يمسي انتزاعها بالهدم أو غيره مخالفاً للقانون، بل هو (وربي) خطيئة وجريمة.
فلا ندري إذاً أي عقل هذا الذي أسس تلك الحجة وأخرجها، وأي عقل هذا الذي تقبلها!؟
ثانياً: في شأن المساجد الحديثة:
ولما ان هناك العديد من المساجد الحديثة قد نالها الهدم كذلك للسبب السابق ذاته (أي بسبب عدم الترخيص) في حين أن القائمين على هذه المساجد يؤكدون أنهم حصلوا على إجازة البناء والترخيص قبل بنائها. ومع افتراض عدم صدور الترخيص فإنه يكفينا الاحتكام إلى أحكام القانون.
فلو عدنا قليلاً إلى القانون رقم (13) لسنة 1977 بشأن تنظيم المباني، وبالتحديد المادة رقم (7) المتصلة بموضوع الترخيص، نقرأ منها ما يلي: «في حالة رفض طلب الترخيص يجب على البلدية إخطار الطالب برفض الطلب وأسبابه خلال مدة ثلاثين يوماً». بمعنى أن إبلاغ صاحب الطلب بالرفض واجب قانوني تلتزم البلدية القيام به، لأنه في حالة عدم الإبلاغ بالرفض يترتب عليه حكم آخر وهو «ان طالب الترخيص يعتبر حاصلاً على الترخيص المطلوب حكماً» انطلاقا من قاعدة الترخيص الضمني، وهذا ما نصت عليه المادة المذكور أعلاه في فقرتها الأخيرة بالنص التالي «فإذا لم يتلق الطالب أي إخطار خلال هذه المدة كان له أن يسلم البلدية كتاباً أو أن يخطرها بخطاب مسجل بعزمه على البدء في العمل المطلوب الترخيص به بعد مدة 15 يوماً من تاريخ تسليم الكتاب أو إرسال الخطاب المسجل إلى البلدية، ويعتبر الطالب حاصلاً على الترخيص المطلوب إذا لم يتلق رداً مسبباً من البلدية خلال الـ 15 يوماً المشار إليها».
مما تقدم نستنتج أن المشرع اعتبر عدم رد البلدية برفض الترخيص قبولاً ضمنياً منها بالبناء طالما كان هناك طلب سابق للبناء وإخطار من الطالب بعزمه على بدء البناء المطلوب الترخيص به.
وحيث أثبت القائمون على بناء تلك المساجد المهدمة بالدليل تقديم طلبات البناء، فإنه مع افتراض أن البلدية لم تجز لهم البناء صراحة فإن عدم إبلاغها لهم برفض الترخيص يعتبر إجازة منها بالبناء ضمنياً.
ولما كان السبب المعلن لهدم هذه المساجد هو عدم ترخيصها وليس هناك سبب آخر غيره.
وحيث انتهينا - على نحو ما تقدم - إلى أن الترخيص (في حالة توافر الشروط والوقائع السابقة) قابل أن يكون ضمنياً، وأن عدم صدور الترخيص المكتوب في هذه الحالة سبب غير مسوغ للهدم، لذلك يمسي هدم هذه المساجد في ظل الظروف المشار إليها عملاً خاطئاً لا مبرر له، إلاّ إذا كان هناك سبب آخر غير معلن؟.
علي محسن الورقاء
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3564 - الأحد 10 يونيو 2012م الموافق 20 رجب 1433هـ