واجه الفكر الأصيل والكلمة الطيبة التي "أصلها ثابت وفرعها في السماء"، الكثير من الهجمات الشرسة بهدف التصفية والإلغاء أو التهميش، طيلة العهود الماضية، وكان محور الصراع والمواجهة يقع في العراق بالدرجة الاولى، فقد جاءت الهجمات والضربات من أنظمة حكم تارةً، ومن التيارات الفكرية تارةً أخرى، ويمكن الاشارة الى حقبة الدولة العثمانية، حيث شنت حملات قمع واضطهاد وحشية في بعض المراحل ضد شيعة أهل البيت عليهم السلام، لكسر شوكتهم وتجريدهم من هويتهم الدينية والحضارية، وبموازاة ذلك عملت الوهابية الشيء نفسه وبقدر أكبر من القسوة والوحشية. ثم تراجع القمع والاضطهاد المنظم والرسمي مع زوال الدولة العثمانية، وتأسيس الدولة العراقية الجديدة عام 1920، لكن استبدل القمع الرسمي بحملة جديدة من تيارات فكرية وثقافية وافدة، تمثل بالماركسية والقومية. ثم نشير عجالةً، الى الحقبة السوداء للنظام الصدامي. وجرى ما جرى في العراق.
صحيح، أن شيعة أهل البيت عليهم السلام، قدموا تضحيات جسام، فقد سفكت دمائهم وانتهكت أعراضهم ونهبت دورهم وحرقت مؤسساتهم وحسينياتهم، بل حتى تم التعرّض لمراقد الأئمة المعصومين في فترات من الزمن الغابر. لكن الصحيح ايضاً أنهم كانوا يقفون على أرض وقاعدة حديدية من العزم والإرادة على حماية الفكر الأصيل والثقافة الاسلامية المستمدة من القرآن الكريم وسيرة المعصومين عليهم السلام، متمثلاً بجهود وتضحيات كبيرة، لنشر الوعي والثقافة وتكريسها في المجتمع، من خلال تأسيس المدارس الدينية والمكتبات والتأليف والتبليغ، نهض بها علماء وخطباء ومفكرون، منهم من دفع حياته ثمناً في هذا الطريق، ومنهم من تعرّض للتسقيط والتهميش والتهجير، ومنهم من تعرض للاعتقال والتعذيب. ثم تحوّل هؤلاء من طليعة في المسيرة الى شريحة كبيرة في المجتمع، فوجدنا مقاطعة الظلم والطغيان والجهر بالقول الحق، من أناس مؤمنين ومضحين. فاذا نجد المظاهر الدينية والطقوس والشعائر تقام بحرية وعلى نطاق واسع في الوقت الحاضر، فان الفضل يعود الى تلك التضحيات الجسام.
لكن هل ما مرّ يعني أننا رسونا الى برّ الأمان..؟ بالطبع كلا؛ فالهجمات تبدو أكثر خطورة في الفترة الراهنة، وهذا ما ينبهنا اليه سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- في إحدى بياناته الرمضانية، حيث يعبئ الجهود ويحث المشاعر للمزيد من العمل والنشاط لنشر الوعي والثقافة الأصيلة، والتحدي بعزمٍ وإصرار. يقول سماحته: "صحيح إن الزمان الذي نعيش فيه الآن هو ليس كزمن العثمانيين الذين كانوا يصبّون أذاهم على الشيعي لمجرد لعنه ليزيد بن معاوية – مثلاً- لكن أعداء الإسلام اليوم قد جنّدوا إمكانات هائلة وضخمة جداً في ممارسة التضليل والتحريف من خلال وسائل الإعلام لمحاربة مذهب أهل البيت صلوات الله عليهم".
طبعاً سماحته، يشير في سياق حديثه الى علماء ورموز دينية كبيرة – وليس فقط أشخاص عاديين- استبصروا بنور أهل البيت سلام الله عليهم، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن عدد هؤلاء العلماء الذي استبصروا في الفترة الراهنة، او حتى الى عقد أو عقدين من الزمن..؟ صحيح إننا نشهد استبصار اعداد كبيرة من المسلمين وغير المسلمين بنور أهل البيت عليهم السلام، من مختلف بقاع العالم، لكن الصحيح ايضاً، أن تحوّل واستبصار المثقف والمفكر وعالم الدين، الذي يُعد طليعة المجتمع وقمته الفكرية والعقائدية، يترك أثراً أكبر وأعمق في النفوس، ولنقل؛ يحدث هزّة عنيفة في العقول ويثيرها للبحث عن الحقيقة، وهنا تحديداً يجب أن نبحث عن الآلية المطلوبة للوصول الى هكذا مستوى من التأثير في الطرف المقابل، تطبيقاً للقول المأثور: "أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم".
سماحة المرجع الشيرازي يشير الى "الهمّة العالية" في ساحة المواجهة، ويقارن بين الظروف التي عاشها العلماء والمفكرون والخطباء في الازمان الماضية، حيث كانوا أقلية أمام الانظمة السياسية والتيارات الفكرية، وكانوا عرضةً للقمع والاضطهاد والتنكيل، لكن هذا لم يثنهم عن السعي والعمل على النشر والتوعية والتثقيف، يقول سماحته أنهم: "بهممهم العالية استطاعوا أن يوصلوا لنا أمانة التشيّع ونهج أئمة الهدى الأطهار صلوات الله عليهم".
ويمكن الإشارة في هذا الصدد، الى أهم وأبرز مثالين شاخصين في الساحة العراقية والاسلامية، هما: سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي وشقيقه المفكر الاسلامي الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي – قدس سرهما- فهذان العلمان، يمثلان بالحقيقة، رمزاً وتجسيداً حقيقياً للتحدي والتضحية من اجل نشر مبادئ وقيم الدين وثقافة أهل البيت عليهم السلام، فالأول؛ واجه التهديد والتهجير ثم التسقيط، أما الثاني: فقد واجه الاعتقال والتعذيب ثم الاغتيال برصاصات غادرة. فاذا اردنا البحث عن مصاديق للهمة العالية التي يطالبنا بها سماحة المرجع الشيرازي، ربما علينا البحث في تاريخنا المعاصر لإيجاد اسماً او اسمين او اكثر، بيد ان "الشيرازيّين" وبإقرار القاصي والداني، جسدا الهمّة العالية والتضحية بلا حدود.
ولو تصفحنا قليلاً سجل المواجهة المحتدمة في القرن الماضي، وقارنا الظروف القاهرة والرهيبة التي عاشها المفكرون والعلماء والخطباء وغيرهم من الشريحة الواعية المتصدية، وبين الظروف التي نعيشها اليوم، حيث الحرية المطلقة في إبداء الرأي والحديث والنشر وممارسة الشعائر والطقوس، لعرفنا حجم تلكم التضحيات الجسام التي أوصلتنا الى هذا المستوى من التقدم أمام المدارس الفكرية الاخرى، بحيث يمكن القول بوجود الهوية الدينية لدى المجتمع، وهذا يعد نجاح كبير وعظيم، إذ إن الجهود المبذولة من الطرف الآخر في تلك الحقبة كانت منصبّة على استهداف هذه الهوية وقتلها.
لذا نجد سماحة المرجع الشيرازي يوثق الصلة بين الهمّة العالية وبين النجاح في الحياة، حيث يقول: "إذا كان المرء صاحب قوة بدنية، وثروة، وعلم، ولم يكن يعاني من أية مشكلة، وكان سليم البدن وفي راحة بال وكان في الوقت نفسه فاقداً للهمة، فهذا إنسان غير موفق. وفي هذا الصدد قال مولانا الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «ما رفع امرءاً كهمّته»".
وهذه دعوة صادقة ومفتوحة للجميع لأن يستفيدوا من علومهم وقواهم البدنية والذهنية وثروتهم لتكون خير شاحذ للهمم ودافع نحو إنجاز المزيد من الاعمال والنشاطات والمشاريع الرامية الى تكريس الوعي والثقافة في الوسط الاجتماعي. مع الحاجة الماسّة والشديدة في الوقت الحاضر لمزيد من الضخ الفكري والثقافي في الساحة لمواجهة ما نشهده من سيل عارم من الافكار الدخيلة والثقافات والعادات الوافدة من الخارج، وهذه بالحقيقة مسؤولية الجميع.