ثمة سبل وطرائق كثيرة يستند إليها البناء المجتمعي السليم، كلها تنتظم تحت بنود وخطوات اجرائية، تُسهم بصورة فاعلة في تحديث المجتمع، ورفع شأنه، وارتقائه، من مرتبة المجتمع المتأخر، الى مراتب المجتمعات الاكثر تطورا في العالم، يتقدم هذه الخطوات الاجرائية، الانفاق، ويعني مشاركة الاثرياء في معادلة الدخل، أو تقريب الفجوة، وتقليل الفوارق الشاسعة، بين الفقراء والاغنياء.
فعندما يقوم الغني بالانفاق على الفقراء بطرق واضحة ومنتظمة، ضمن منهج حياتي شامل، يسير عليه اثرياء المجتمع كافة، عند ذاك سيكون المجتمع كله اكثر استعدادا من سواه، للتقدم والاستقرار، نتيجة لاسهام المال المتوفر من التبرعات والانفاق على الفقراء في مجالات التعليم والترفيه وتطوير القدرات والمواهب والكفاءات، وهي كثيرة لدى الفقراء، كونهم يحاولون أن يعوضوا النقص المادي بالابداع الفكري والمعنوي.
ورد في كتاب الامام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الموسوم بـ (إنفقوا كي تتقدموا)، في هذا المجال: إن (الإنفاق في سبيل الله ينفي البخل والشح، ويسهم بشكل فاعل في عملية تقدم وتطور المجتمع).
الآثار السيئة للبخل
في مقابل الانفاق يقف البخل بالضد من تطور المجتمع، إذ يكف الاغنياء أو يترددون، عن المساهمة ماليا في البناء المجتمعي من خلال التبرع بالاموال، ضمن القنوات الشرعية كفريضة الزكاة والخمس، أو عبر اللاسهام الفاعل في التبرع للفقراء، او اقامة وانشاء المشاريع الخدمية والصحية والثقافية وسواها، لذلك عندما يكون الغني بخيلا، فإنه يحرم اعدادا واسعة من المجتمع فقراء او سواهم، من فرص التعليم والترفيه والصحة، والحياة الكريمة، علما ان البخل مخالفة واضحة لتعاليم الله تعالى.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال حول البخل في كتابه المذكور نفسه: (إن الله تعالى ليس بحاجة إلى أموالنا بقدر ما نحن بحاجة بذل هذه الأموال في سبيل الله، فنحن الفقراء إلى الله، ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه، وللبخل آثار سيئة على الإنسان نفسه منها: جلب الذم فالبخيل مذموم دوماً، والبخل يزري بصاحبه وهو مدعاة للذل فالبخيل ذليل أبداً وإن كان بين أعزته، كما يكسبه العار ويدخله النار لا محالة).
وهناك صفات مسيئة تلحق بالبخيل دائما، بالعكس تماما من المزايا التي يحصل عليها الثري الكريم، الذي لا يتردد عن التبرع بجزء من مدخراته وامواله لصالح الفقراء، والبناء المجتمعي، من خلال دعم المؤسسات الخيرية والمنظمات الثقافية والمشاريع الصحية والتعليمية وسواها، لذلك تلحق بالبخيل صفات لا تليق بالانسان يطلقها عليه المحيط المجتمعي الذي ينشط ويتحرك فيه، في العمل او العلاقات الاجتماعية وما شابه.
لذلك يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (في البخل أيضاً اللؤم والمسبة ولا سبة كالبخل. ومن آثار البخل الأخرى أنه يوجب البغضاء ويمنع الشكر، ويكسب المقت ويشين المحاسن ويشيع العيوب؛ فإن البخيل يمقته الغريب وينفر منه القريب، والبخل مما يفسد الأخوة، فمنعك خيرك يدعو إلى صحبة غيرك، مما يجعلك غريباً بين أهلك وإخوانك، ولا غربة كالبخل).
زكاة العلم نشره
من اللافت للاهتمام، أن المشاركة في البناء المجتمعي، لا يقتصر على الدعم المالي من الاثرياء للطبقات الاخرى الاقل ثراءً، بل ينبغي أن تسهم المشاركات العلمية والقدرات المختلفة في بناء المجتمع، ومنها العلم على سبيل المثال، إذ لا يجوز احتكار العلم، وحرمان الفقراء وغيرهم من فوائد العلم وثماره التي تصب في تطوير العقول والافكار، وتبني الحياة بالصورة الامثل، وتساعد على بلورة مجتمع متطور مستقر ومنسجم.
يقول الامام الشيرازي في هذا لمجال، عن العلم ومشاركة الاثرياء والعلماء للفقراء في هذا الجانب: (إن الشرع الحنيف قد جعل لكل شيء زكاة: فزكاة العلم نشره، وزكاة الجاه بذله، وزكاة الحلم الاحتمال، وزكاة المال الإفضال، وزكاة القدرة الإنصاف، وزكاة الجمال العفاف، وزكاة الظفر الإحسان، وزكاة البدن الجهاد والصيام، وزكاة اليسار بر الجيران وصلة الأرحام).
وعندما يتردد الاثرياء، عن دعم الفقراء، في المال والعلم وتطوير المجتمع، فإن الحقد والضغينة سوف تتزايد ضد الاثرياء، لذلك طالما ان الغني يتحرك في الوسط الفقير، وينشط فيه ويعمل ويجمع امواله من خلال عمليات البيع والشراء والتعامل مع الشرائح الواسعة من الفقراء، فإن الكف عن مساعدة هؤلاء والتبرع لما يخدمهم ويطورهم، يجعلهم في حالة من الغضب على الاثرياء.
يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور حول هذا الموضوع: (إن علم النفس والاجتماع يقرران أن هناك نقمة متزايدة ضد طائفتين: الحكام والأثرياء، وهذه النقمة لابد أن تتنفس بعنف، ولكن يمكن امتصاص هذه النقمة. وأما كيفية امتصاص النقمة ضد الأغنياء، فبالبذل السخي للفقراء والمشاريع، وبعدم الاستفزاز في الإنفاق، سواء كان الاستفزاز من نوع الإسراف، أو من نوع التظاهر، أومن نوع الكبرياء، أو من نوع الفساد).
بطبيعة الحال العتب، وتأشير هذا الخلل لا يشمل جميع الاغنياء، فهناك من هو ملتزم بالتبرع ومشاركة المؤسسات الداعمة للمجتمع، وهناك من هو حريص من الاثرياء على دعم الفقراء، ومنهم من يؤدي الزكاة والخمس على نحو متواصل ومنتظم، ولكن هناك أقلية من الاثرياء ملتزمة بهذا النهج، أما الاكثرية فهم غير ملتزمين بهذا المنهج الذي يؤكد عليه الدين، وتفرضه الشرائع، وتتطلبه حالة المجتمعات الاسلامية التي تعاني من العوز والحرمان والفقر، لأن أقلية الاغنياء ليس بمقدورها تصحيح البناء المجتمعي.
لذا يؤكد الامام الشيرازي على توضيح هذا الجانب قائلا سماحته في هذا الصدد: (ليس من شك أن هناك أثرياء من أهل الخير يبذلون بسخاء في سبيل الله، ولكن هناك فرقاً كبيراً بين أن يكون الأقلون أو الأكثرون هم الذين يبذلون، والكلام هنا في الأكثرية التي لا تبذل، لا في الأقلية التي تبذل، والأقلية ــــ غالباً ــــ لا تغير ظواهر المجتمع).