نتفق جميعا على أن تحقيق بناء الدولة المدنية، يستدعي اولا رجال قادرين على التعامل مع تحقيق هذا الهدف، بع توفير الشروط اللازمة لجعله هدفا محققا قائما على الارض وملموسا من لدن الجميع، ولا يتحقق بناء الدولة المدنية ما لم يتصدى له رجال محنكون من ذوي الارادات الصلبة والعقول الواعية، اولئك الذين يفهمون السياسية بكل أبعادها وانشغالاتها.
وليس صعبا أن يتواجد قادة سياسيون يفهمون السياسة وغوامضها، وذلك من خلال تطوير الذات بالتثقيف والقراءة والاحتكاك العملي المباشر مع الميدان السياسي وبذل ما يلزم من جهد فكري وعملي في هذا المضمار، ولا يصح اطلاقا ان يتصدى للسياسة رجال لا يفهمونها، علما أن فهم السياسة ليس امرا عصي المنال.
يمكنك أن تكون سياسيا
من المؤكد ان الخوض في الميدان السياسي، ليس حكرا على انسان دون غيره، ولكن العمل في السياسة يتطلب على الاقل فهما عميقا لها، وهو امر متاح لمن يرغب ذلك، من خلال التعلم واكتساب المعرفة العملية والفكرية، أي معرفة الفكر السياسي وفهمه بالصورة التي تؤهل الانسان للخوض في الميدان السياسي من اجل الوصول الى بناء الدولة المدنية.
يقول الامام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الفهم السياسي)، في هذا المجال: (بإمكان الإنسان أن يصبح فاهماً، وبإمكانه أن يكون كثير العلم والإدراك، وذلك بجده واجتهاده، وأيضاً بيده أن يصبح أبلهاً أو بليداً أو شخصاً عادياً لا يهتم ولا يعي لما يجري حوله من القضايا والأحداث، وهذا يعتبر نقصاً للإنسان؛ لأن العلم كمال وتركه نقص).
اذن فقضية تحصيل الفهم السياسي تبقى خيار فردي يمكن أن يكتسبه الانسان فيما لو قرر ذلك، ثم يسعى لتحصيل العلم السياسي اولا، وفهم مجريات الامور التي تتعلق بالسياسة والمجالات ذات العلاقة بها، وهنا لابد من الاقرار ان هناك عقولا متميزة سريعة الفهم كبيرة الذكاء، لها القدرة على النبوغ السياسي، وهي وحدها القادرة على تثبيت اسس صحيحة لبناء الدولة المدنية، الامر الذي يجعلها افضل من غيرها، وهو امر متفق عليه كما تؤكد تجارب التاريخ.
في هذا الصدد يؤكد الامام الشيرازي على: (إن الإنسان بواسطة عقله يفهم الأشياء، ومن هذا الباب نجد أن بعض الناس الذين يملكون عقلاً سليماً لهم نبوغ في مختلف مجالات الحياة؛ وذلك لرجاحة عقلهم،وحسن تعاملهم مع القضايا والأحداث،التي تدور حولهم، بينما نجد البعض الآخر لا يمتلك هذه الخاصية، التي هي – الفهم- أو المعرفة والفطنة، إما لخلل عقلي، وهذا خارج عن إرادة الإنسان وإمكانه عادةً، أو لتقصير منه، وذلك لعدم تحصيله للعلوم والمعارف ومعرفته بالأوضاع التي توصله إلى الفهم والإدراك).
التثقيف والسياسة الشاملة
السياسة بمفهومها الشائع، ليست وليدة الراهن، ولا هي ترتبط بعصر دون غيره، إنها قديمة قدم الانسان عندما بدأ يتكتل في تجمعات بشرية تحتاج الى الادارة والتنظيم، لهذا لا تعد السياسة علم حديث النشوء، ولكن تختلف الاساليب بطبيعة الحال، لذا يحتاج الجميع الى فهم السياسة والتعاطي معها، لانها تتعلق بأنشطة الانسان فردا او جماعة، علما ان الحاجة للفهم السياسي تقتضيها خطوات الوصول الى الدولة المدنية.
يقول الامام الشيرازي، حول هذا الموضوع في كتابه المذكور نفسه: (السياسة ليست من العلوم الحديثة، بل لعلها وجدت بوجود الإنسان في هذه المعمورة، وبواسطتها ينظم الإنسان حياته. وكل إنسان يحتاج إلى السياسة، وفي جميع المجالات، سياسة مع نفسه،سياسة في تعامله وتعايشه مع عائلته، سياسة مع صديقه، سياسة مع عدوه، وسياسة مع جميع أفراد المجتمع. ومن هذا الباب، فإن أغلب الناس سياسيون، ولكن بدرجات متفاوتة).
ولكن هناك عقول متباينة بقدرتها على تحصيل الفهم السياسي، ويتقدم عنصر التثقيف جميع المقتضيات الاخرى لفهم السياسة، بمعنى على الانسان ان يجتهد في فهم السياسة، ومن ثم يتعاطى معها، كشرط تستوجبه قضية بناء الدولة المتمدنة، يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص: (من أهم مقومات الفهم السياسي هو: التثقيف والتوعية، وهي إحدى الأسس الرئيسية لنهضة الأمة الإسلامية، وترسيخ مبادئها وتطبيقها على أرض الواقع بشكل تام وصحيح).
ولهذا لا يمكن تحقيق المستوى المطلوب لفهم السياسة ما لم تتوفر الارادة القوية والسعي الحقيقي لتحقيق هذا الهدف المهم والكبير، إذ يقول الامام الشيرازي: (إذا أردنا المعرفة والحصول على الفهم السياسي، فعلينا بالجهاد الفكري والجهاد العلمي ضد الجهل، وبكل الوسائل المتاحة المشروعة، بالقلم واللسان، وبمختلف الوسائل العصرية).
مقومات الفهم السياسي
لاشك أن هناك مقومات يتطلبها الفهم السياسي، كي يكون الانسان قادرا على استيعاب السياسة وفهما، ومن ثم تطبيقها في سعيه نحو بناء الدولة المدنية، بمعنى يجب أن تكون معرفة الانسان الذي يرغب الدخول في السياسة والعمل في ميدانها، متعددة الجوانب وشمولية، او هي ثقافة موسوعية، بالاضافة الى فهمة للسياسة نفسها.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (إن الفهم السياسي بحاجة إلى مقومات عديدة، فالسياسي مثلما يحتاج إلى معرفة الدين يحتاج إلى معرفة الاجتماع، وقد أشرنا إلى لزوم معرفة الإنسان بالدين والاجتماع والتاريخ والاقتصاد، ليكون واعياً في كل جوانب الحياة).
ولعل التدبّر والتحقق من سياسات الدول الاخرى معنا تتقدم على الجوانب العملية الاخرى، حيث نحتاج الى سياسة ذكية وواعية في التعامل مع الآخرين من خلال فهمنا لطبيعة سياساتهم، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي حينما يقول بهذا الخصوص: إن (التحقيق والتدبر والتأني يلزمنا في كل موقف، وخصوصاً المواقف والتحولات السياسية في البلدان والحكومات، والتي تؤثر بشكل وآخر على البلدان الإسلامية؛ ولذا نجد أن غياب التدبر السياسي، وغياب الوعي والفهم السياسي، جعل العراق يعيش الويلات والتفرقة والمصادمات).
نعم لقد عاش العراق بسبب الحكومات القاصرة والتابعة للاجنبي ويلات كبيرة، كما هو الحال مع كل الدول التي قادتها انظمة مستبدة، لذا يجب التخلص من الانظمة ذات النهج الدكتاتوري لعدم تكرار الويلات والاخطاء الكارثية، وتحقيق بناء الدولة المدنية، وهذا يتطلب جهودا استثنائية في تطوير الفهم والوعي العام للسياسيين ولعموم المعنيين، لذا يؤكد الامام الشيرازي قائلا: (على المسلمين إذا أرادوا النهوض والتخلص من هذه الأنظمة القمعية والاستبدادية، إيجاد الوعي العام والفهم التام بكل الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية والدينية).