أحداث التغيير التي توقدت شرارتها من ذلك الجسد المحترق لشاب قضى بؤساً وحرماناً في زقاق تونسي صغير ما زالت تتواصل وتتسع معها ضرورة مناقدة "قناعات" لم تسعف الإنسان العربي والمسلم طيلة عقود وهو يرزح تحت سياط الاستبداد والقهر والفقر، ومن استحقاقات التغيير برزت تحذيرات من تحليلات تبسيطية للواقع، وتساؤل حول حقيقة ما يشهده العالم العربي "ثورة وتغيير" أم "انفعال وارتجاج".
وإذا كان ما يجري ثورة فأين التغيير الجذري في السلطة ووسائل الإنتاج والنموذج الثقافي في حين يلاحظ أن ما يجري في المنطقة هو تغيير رأس السلطة مع الحفاظ على حيثياته، بموازاة ذلك، فإن الاهتمام بـ(التقنية الإعلامية) يتنامى ليس فقط باعتبارها الحامل الرئيسي لأفكار فعلت إرادات خاملة باتجاه التغيير، وإنما لأن هذه التقنية كانت وما زالت وسيلة لإنتاج قيم جديدة، وربما أصبحت هذه التقنية "ايقونة التغيير".
السلمية
لقد أتخم تاريخ شعوب المنطقة بأحداث الثورات الدموية والانقلابات العسكرية ومشاهد سحل الجثث وحبال المشانق، وفي قبالها، حركات معارضة مسلحة تقدم مواكب الشباب على مذبح الخلاص من أنظمة الجور، ولم تحصد الشعوب من ذلك "النضال الأسود" سوى الموت والدمار، حيث قوى الوعي مستلبة أو خاملة ودماء تريق أخرى، وقد كتب الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي (قدس سره الشريف) قبل أحداث تونس بربع قرن حول عقم النضال المسلح وضرورة المنهج السلمي لحركة الشعوب لنيل تحررها حيث قال: "من المهم جداً تحييد السلاح أولاً، حتى لا يدخل الميدان لصالح الدكتاتور، وغالباً يمكن تحييد السلاح بعدم أخذ الشعب السلاح في إضراباته ومظاهراته، بل تكون حركته سلمية تتجنب العنف والشدة". مبيناً (قدس سره الشريف) أن "حركة اللاعنف وإن كانت صعبة جداً على النفس، لكنها مثمرة جداً في الوصول إلى الهدف، والعاقل يقدم الصعوبة على الفشل". مؤكداً (قدس سره الشريف) أن "من يتصور أنه يمكن إنقاذ الشعوب بالعنف، سوف يبرهن له الزمان عكس ذلك".
وهذا المنهج التحرري السلمي الذي طرحه (قدس سره الشريف) كان السبيل لإنجاز حرية شعبي تونس ومصر، وكان (قدس سره الشريف) بذلك رائداً ومصلحاً ومجدداً.
الإعلام
بينت تعريفات تقليدية للإعلام أنه مرسل ورسالة ووسيلة اتصال ومستقبل التي بها يكون الانتصار للطرف الأكثر تنظيماً وتصبح القدرة على إرباك الخصم مساوية للقدرة على تدميره، إلا أنه في نهاية تسعينيات القرن الماضي ترشح تعريف جديد للإعلام عبر نظرية (الحـرب المعرفية الافتراضية) والمفهوم الرئيسي فيها أن حروب المستقبل يجب أن تواكب التحولات الإجتماعية في بناء المجتمعات، وإن إدارتها الرئيسية ستكون متمثلة بالإعلام وليس بالأسلحة الذكية، وعلى هذا الأساس فإن الإعلام هو ميزة فيزيائية مثله مثل الطاقة والمادة، حيث يكون المرسل والمستقبل ووسيلة الاتصال مجرد عناصر أما القيمة الرئيسية فهي للرسالة، التي بها يكون خوض الحرب عبر الشبكات، وإن حروب الغد لا يكسبها من يملك القنبلة الأكبر بل يربحها ذلك الذي يملك الرسالة الأفضل، بهذا فقد قدمت هذه النظرية مفهوماً جديداً للقوة حيث تنبأت بتحول القوة من مادية (أسلحة) إلى لا مادية (إعلامية).
وكانت مواقع التواصل الاجتماعي في بلدان التغيير وسيلة فاعلة في تكوين رأي عام متفاعل مع ضرورة التغيير. وقد أشار (قدس سره الشريف) في بحث تفصيلي بعنوان (الرأي العام والإعلام) الى أن "الرأي العام يفرض على أفراد الأمة أحاسيس مشتركة، ومن ثم مواقف مشتركة، فإذا تمكنا من التأثير في الرأي العام فإننا سنتمكن من إصلاح كل شيء، لأن كل شيء يسبح في هذا البحر المتلاطم المسمى بالرأي العام". كتب هذا قبل ثورة تونس بعقدين من السنين وكان (قدس سره الشريف) بهذا رائداً ومصلحاً ومجدداً.
الدعم الدولي
من المعلوم أن مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول استعملا – غالباً - ذريعة وغطاء لارتكاب الأنظمة المستبدة لجرائم خطيرة في حق شعوبها. غير أنه مع تنامي الرعاية الدولية لحقوق الإنسان تعززت الحماية الدولية للشعوب المقهورة عبر اتفاقيات أممية وبروز منظمات دولية غير الحكومية مهتمة بهذا الشأن، بالإضافة إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية. وقد كان الدعم الدولي من عوامل وصول ربيع الحرية الى المنطقة، حيث شكل هذا الدعم ضغطاً مؤثراً في إرباك قوى التسلط وفضحها، ومد الشعوب التي اختارت الحياة بمستلزمات الانتصار. ولكن ما يحدث اليوم لم يحدث بالأمس، فعند تفجر الانتفاضة الشعبانية في العراق عام 1991 دعا (قدس سره الشريف) الى الترفع عن الشعارات والاهتمام أولاً بخلاص العراقيين من نظام الطاغية مؤكداً "ضرورة حث المجتمع الدولي على دعم الشعوب التي تنشد الخلاص والحرية من خلال تكثيف الضغط على كل حكومة تريد ظلم شعبها".
مؤكداً (قدس سره الشريف) أنه "لا يجوز في حكم العقل والشرع أن يترك الظالمون يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم مصادرة للأموال وتشريداً وقتلاً بحجة أنها شؤون داخلية". لكن ولأن "الكثير يسير خلف الأسماء والشعارات لا خلف الواقع" كما يقول المرجع الديني السيد صادق الشيرازي (دام ظله)، فكان أن تمكنت السلطة الغاشمة آنذاك من قمع الانتفاضة بمجزرة وإبادة مستغلة لا مبالاة البعض بالضرورة الاستراتيجية للدعم الدولي لتحقيق الانتصار ليكابد العراقيون إثنتي عشرة سنة إضافية بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من الانتصار.