مأزق الخطاب والحوار الوطني
أحمد شهاب
القراءة المتفحصة للوضع السياسي الداخلي، وبأداوت تحليلية ناقدة، يعد إجراء ضروريا للخروج من مأزق الانسداد في الحياة السياسية المحلية، والتقدم في معالجة الظروف الاستثنائية التي تحولت، بسبب الإهمال والتقصير، إلى واقع قائم، بحيث بدا أن الحديث عن أزمات جديدة قد تظهر في الفترات المقبلة، أو صدامات متوقعة، أمر لا يثير الكثير من الاهتمام والالتفات، لأنها أزمات منتظرة من قبل الشرائح الاجتماعية، وهو ما يمكن اعتباره مؤشرا على حجم اهتزاز ثقة الجمهور بالمستقبل.
العديد من العناوين والقضايا ينبغي أن تتحول إلى مادة للبحث والحوار على المستوى الوطني، لكونها تمثل قضايا وهموم الناس الأساسية التي تشغل بالهم وتحدد أولوياتهم، ولأن الحوار حولها يُمثل الإطار الصحيح، ليس لبناء تصورات حول الواقع السياسي القائم فقط، وإنما لتحديد مواقع العمل والتحرك ومحاولة استشراف المستقبل، سواء على مستوى السلطة ذاتها أم على مستوى الجماعات السياسية النشطة.
هذه في ظني إحدى مهمات من يعنون بصناعة الثقافة السياسية اليوم، فخلال السنوات الأخيرة تبدّى للمراقبين أفول الخطاب السياسي الواضح عند القوى السياسية، وانطلاقها في حركة تفاعلاتها وقراراتها من ردة الفعل على الحدث السياسي، وليس بناء على رؤية واضحة المعالم، ولا اعتمادا على جملة من الغايات المستهدفة. إن قرار المعارضة أو المصالحة، العمل من داخل النظام، أو من خارجه، تأييد إجراء حكومي أو رفضه، هذه المواقف والقرارات كانت خاضعة في الحقيقة إلى مزاج شخصي ينطلق من ردة الفعل على الحدث، وليس بناء على قراءة دقيقة للساحة ومعطياتها.
بناء أي خطاب سياسي جديد يعتمد في ظني على قراءة دقيقة لمسارين في الحياة السياسية المحلية، الأول المسار الداخلي، والآخر المسار الخارجي، يمكن تلخيص إشكالية المسار الأول بعنوان أساسي وهو «غياب المشروع السياسي». إن غزو الكويت وتحريرها، كان ولايزال، عملية مكلفة سياسيا وثقافيا، تساقطت معها الكثير من الشعارات والاحلام والتصورات. بالنسبة إلى التيارات السياسية، فإنها حاولت أن تتماسك، بخاصة في فترة البناء والتحدي، إلا أنها سرعان ما أصيبت بعطب نتيجة البون الشاسع في ما بين الشعارات المرفوعة والواقع الجديد القائم.
بعد التحرير من الغزو تم تداول لُغة جديدة على الساحة مثل الحديث عن الشرعية السياسية، الحكم الصالح، أولوية الأمن الداخلي، ترسيخ مفهوم المواطنة والوطنية، وغيرها من المفردات والمفاهيم التي تعتبر جديدة، ولم تتداولها التيارات السياسية في السابق في أدبياتها وثقافتها الداخلية، أو حتى المعلنة، بل وتستهين بها وتعتبرها أطروحات ملتبسة بالدكتاتورية والضيق المفاهيمي، وهو ما أوقع الجماعات السياسية في مأزق مواجهة اللغة الجديدة، فلا هي تستطيع أن تهضمها في أدبياتها الداخلية لأنها تتعارض مع بنيتها الثقافية السابقة، ولا تستطيع معارضتها في العلن، لأنها تحولت إلى ثقافة عامة، وسنلاحظ هذا الاضطراب يتجلى في خطاب العديد من الإسلاميين الحركيين سنة وشيعة، وفي خطاب اليسار القديم.
لقد عجزت التيارات السياسية عن صوغ مشروعها السياسي المحلي، وظل أغلبها تابعا فكريا وذهنيا وثقافيا للخارج، ولم تستطع في الغالب أن تبني شخصيتها المستقلة، وعلى الرغم من صعوبة الإقرار بهذا الأمر، خصوصا بعدما تم تداوله في الإعلام كتهمة يوجهها كل طرف إلى الآخر لتحجيم دوره في الساحة، وبالتأكيد سيكون من السهل جدا على الليبرالي أن يتهم الإسلامي بالانتماء للخارج.. والعكس صحيح.. كما يمكن للشيعي أن يستدل على ارتباطات السنة بالخارج، وكذلك العكس. لكن الواقع يقول إن الكل في الحلبة، والكل منتمٍ بدرجة ما إلى الخارج.
هذا الانتماء لا يعنينا في هذا المقال. إن ما يعنينا تحديدا، هو القصور عن صوغ مشروع يلتمس غاياته الحركية من واقع المجتمع المحلي، لا واقع مجتمعات وظروف الآخرين، ويركن إلى رؤية واضحة، فلا ينقض غزله من بعد قوة، إن التحول من موقف المعارضة إلى الموالاة، أو العكس، لا يتطلب نقض أعمال الآخرين، أو تسفيه أدوارهم، أو الاستهانة بأفكارهم ومنتوجاتهم، فمن الممكن أن يُشرع ذلك لنقض الذات والأفكار مستقبلا. إن تخويف الناس من نظراء العمل والتشكيك بأدوارهم، والحديث عنهم بلغة سلبية، سيفرغ العمل السياسي من معانيه مستقبلا، ويُشرع لإقصاء وتجاهل الحركات المطلبية في المستقبل.
أما على مستوى المسار الخارجي، فمن الضروري الالتفات إلى الدور الأساس الذي يلعبه المحيط في تأزيم الواقع المحلي.. والمتتبع لمسارات تعثر التجربة البرلمانية منذ قيامها، سيجد في غالب الازمات يدا طولى للظروف والدول الإقليمية، حيث تبرز جهات تعتبر الديمقراطية عبئا عليها وعلى سياساتها، فمثلت بدورها عبئا واقعيا على الداخل الكويتي، ولاسيما بعدما تزايدت حدة الأصوات المطالبة باستنساخ وتصدير الأنموذج الكويتي بوصفه الاقرب إلى مزاج مجتمعات ودول المنطقة، بما حفز الآخرين لمحاولة النيل من هذه التجربة وتقويضها.
ليس غريبا على الإطلاق أن ينعكس ذلك، ليس على وضع الحكومة فقط، بل على وضع الحكم أيضا، ومحاولة التأثير على بعض النواب والوزراء، فهي أجندة تكاد معالمها تكون واضحة، وإن لم يشأ كثير من الأطراف الحديث عنها بصورة صريحة ومباشرة. لذا فإن الخطوة الأولى المطلوبة على هذا الصعيد، تفكيك شيفرة الضغوط الخارجية، والعمل على قراءتها بدقة وعمق، كوسيلة من وسائل تحرير السياسية المحلية من ضغوط الخارج، وحمايتها من الوقوع ضحية لظروف إقليمة ملتبسة وملتهبة.
* كاتب من الكويت
شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 9/كانون الثاني/2010 - 23/محرم/1431